ميراث العلوم القديمة
2000 الرياضيات والشكل الأمثل
ستيفان هيلدبرانت و انتوني ترومبا
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
أيتها الطبيعة، أنت مَنٌّ إلهي وكل ما أنعم به
من فوائد يعود إلى قوانينك"
(شكسبير، مسرحية الملك لير، الفصل الأول،
المشهد الثاني، من اقتباس كاوس)
خلال العصور القديمة، طرح العديد من الأفكار الأساسية التي ترد حاليا في ميدان العلم. ولا ريب في أن الفضل في طريقة تفكيرنا المعاصرة يعود إلى حد بعيد، لأسلافنا. إحدى الفكر الجوهرية، التي ورثها العلم الحديث عن قدماء اليونان، تتجلى في مفهوم وجود انسجام ونظام أساسي في الكون، وهو انسجام يمكن أن يتمثل في جمال البنى الرياضياتية. ولما كانت الرياضيات اليونانية مقصورة، أساساً، على علم الهندسة، فقد استعان العلماء القدامى بالنماذج الهندسية لوصف الطبيعة.
ومن المثير للاهتمام أن مبادئ الأمثليات optimum principles وردت في العلوم القديمة، ولكن على نحو هامشي، على الرغم من أنه كان يجب أن يكون من دواعي السرور الغامر للعلماء القدامى أن يفكروا في أن انسجام الأشياء يتفق مع النظام الأمثلي لعالمنا. سنلقي الآن نظرة أقرب على اليونان القديمة كي نرى كيف جرى ابتكار هندسة الأشكال المثالية ideal forms.
الدوائر والسيكلوئيدات (الدُّويريَّات) والقطوع المخروطية وموسيقا الكرات
يقال عادة إن الرياضيات تطورت في اليونان خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وذلك بعد أن ابتكر اليونانيون حروف هجاء متَّسقة إلى حد ما(1). ومع ذلك، فإن المؤرخين يقرُّون بأن معرفتنا بالعلم في هذه الحقبة تستند دون ريب إلى أساس مكين. هذا ولا وجود لمصادر أولية، وقد دونت الحوادث البارزة بعد انقضاء زمن طويل على حدوثها في الواقع. وحتى العلماء المتخصصون في دراسة العصور القديمة لا يملكون معرفة أكيدة بأصل الرياضيات أو بأوائل علماء الرياضيات. أما الحكايات التقليدية التي تروى عن العالمين الجهبذين اللذين برزا في بواكير ظهور علم الرياضيات، وهما تالس Thales من ميلاتس Miletus (نحو 624-548 قبل الميلاد) وفيثاغورس Pythagoras من ساموس Samos (نحو 580-500 قبل الميلاد)، فهي خرافية إلى حد ما. ويبدو من المؤكد الآن أن المعارف الرياضياتية التي تعزى عامة إلى أوائل الفلاسفة اليونانيين كانت، في واقع الأمر، معلومة من قبل المصريين والبابليين قبل عدة قرون من نشوء الحضارة اليونانية. لكن اليونانيين، الذين استقروا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لا بد من أن يكونوا قد أدوا دوراً هاماً في حفظ هذه المعرفة ونشرها. ومن المحتمل أن يكون أول تقدم رئيسي أحرزه اليونانيون هو اعتبار المفاهيم الرياضياتية (مثل الأعداد والأشكال الهندسية) تجريدات من مبتكرات عقل الإنسان، وليست جزءاً من العالم المادي. فلم يعد ينظر إلى الخط المستقيم على أنه حبل مشدود أو حرف هرمٍ، ولا إلى المستطيل على أنه حدود قطعة من الأرض. وبدلا من ذلك، فقد عرِّفا على أنهما فكرتان لا تمثِّل الأجسام المادية سوى تقريب لهما. ويبدو من المؤكد تماما أن الفلاسفة اليونانين كانوا أول من أدرك أن الدعاوى الرياضياتية يجب أن تبرهن بالاستنتاج المنطقي انطلاقا من حقائق أو موضوعات (مسلمات)axioms معينة. وفيما مضى، كان يجري التوثق من النتائج الرياضياتية بالاستقراء(2)– أي بإجراء عدد كاف من التجارب. وكان أهم تقدم طرأ هو إدراك أن القضايا الرياضياتية لا يمكن إثباتها من خلال آلاف أو حتى ملايين الحالات التي تصحُّ فيها، إذا كان بالإمكان من حيث المبدأ- حدوث عدد غير منتهٍ من مثل هذه الحالات.
وينسب الفضل إلى تالس في ابتكار البرهان الرياضياتي الدقيق. وسواء أفعل ذلك أم لم يفعل. فمن المؤكد أنه كان واضحاً لليونانيين أن صحة أي دعوى رياضياتية أمر يتحتم إثباته. ويروى أن تالس كان تاجرا. ولعلّه اطلّع خلال أسفاره على قواعد ومعادلات مختلفة لمساحات الأشكال المستوية وحجوم بعض المجسمات.
حجم جذع هرم ذي قاعدة مربعة
V= h(a2 + ab + b2)
لم تحظ حروف الهجاء اليونانية بقبول عام إلا خلال القرن الرابع قبل الميلاد.
- ليس المقصود هنا الاستقراء الرياضياتي ، وإنما المقصود نوع من الاستقراء عرّفه الجرجاني في كتابه "التعريفات" بأنه الحكم على كلّي لوجوده في أكثر جزيئاته.
وكانت توجد أحيانا دساتير متباينة لنفس المساحة أو الحجم- كحجم جذع هرم ذي قاعدة مربعة، أو جذع هرم مقتطع على ارتفاع معين h بسمتوٍ موازٍ للقاعدة مثلاً، كما هو مبين في الشكل السابق. وفعلا، فقد كان لدى البابليين دستور لهذا المجسم، كما كان لدى المصريين دستور آخر. (لعل المصريين كان لديهم سبب علمي لابتكار دساتير هندسية دقيقة؛ إذ كانوا يقيسون أبعاد أراضيهم بانتظام، ذلك أن الفيضان السنوي لنهر النيل كان يطمس كل أثر للعلامات التي كانوا يثبّتونها لحدود أراضيهم).
وبالتسليم بعدم وجود دستورين مختلفين صحيحين، فقد تصدى تالس لمسألتين: أولاهما كيفية إيجاد الدستور الصحيح، والأخرى كيفية إقناع الآخرين بصحة هذا الدستور. وبالطبع، فلم يسلك في مناقشته للمسألة الأولى الطريقة التي يتجادل بها الناس في مسائل لها طابع ذاتي وغير موضوعي، كان يجري نقاش حول تحديد الأفضل بين أثرين فنيين رفيعين. فالأسلوب الذي ابتدعه في اكتشاف الدعاوى الصائبة حول الأشكال الهندسية شكل بدايات علم الهندسة، كما أن الأسلوب الذي اتبعه في إقناع زملائه قد يكون بداية أسلوب البرهان بانتهاج الطريقة الاستنتاجية deductive reasoning. (وتجدر الإشارة إلى أن الدستور الذي توصل إليه المصريون كان هو الصحيح).
لذا فليس من قبيل المفاجأة القول إن تالس هو مبتكر أول هندسة يونانية. ومن المؤكد أن استنباط الهندسة، كنظرية رياضياتية مجردة معزَّزة ببراهين استنتاجية دقيقةٍ، كان إحدى نقاط الانعطاف في التفكير العلمي، وبوجه خاص، فقد أدى هذا، كما سنرى فيما بعد، إلى ابتكار النماذج الرياضياتية للظواهر الفيزيائية.
وعلى سبيل المثال، فقد كان لدى اليونانيين مفهوم للخط المنحني الذي عرّفوه بأنه أثر نقطة تتحرك في الفضاء. ومن الواضح أن حركة كوكب، إذا اعتبرناه نقطة في السماء، ستولَّد منحنياً وهمياً في القبة السماوية.
إن أبسط المنحنيات هي مستقيمات ودوائر. والخط المستقيم هو أقصر الطرق الواصلة بين نقطتين في الفضاء؛ إنه الأثر الذي تخلفه ذبابة (يفترض أنها صغيرة جداً جداً) تتحرك بأقصر الطرق من نقطة إلى أخرى. والدائرة هي مجموعة كل النقاط في المستوى التي تفصلها عن مركز مثبت مسافات متساوية. وعتدما تثبِّت نقطة من سطح مرة، وتدور هذه الكرة حول محور ثابت، فإن هذه النقطة سترسم دائرة.
تتألف الكرة من جميع نقاط الفضاء التي تقع على مسافة ثابتة من نقطة مركزية. وأقصر الطرق بين نقطتين A و B على الكرة قوسٌ a من دائرة عظمى.
إن الدائرة الجميلة بتناظرها لا تبدو لأول وهلة أنها تتمتع بخاصية أصغرية minimum property يتمتع بها المستقيم. بيد أنه إذا دورنا دائرة حول أحد أقطارها، فإننا نولد كرة. أذا أخذنا أي نقطتين من الدائرة المولِّدة، فإن أقصر طريق على الكرة يصل بينهما يجب أن يكون قوسا جزئيّا من هذه الدائرة. (وللدائرة خاصة أمثلية optimum property أخرى جد مدهشة ومعروفة أيضا من قبل اليونانيين، تتصل بمسألة الملكة ديدو Queen Dido سنوردها في مكان آخر من هذا الفصل.)
وقد استخدم العلماء في العصور القديمة أفكارا تتصل بالدوائر والكرات لابتكار نموذج رياضياتي لحركة الكواكب السماوية السيارة والنجوم في المسارات؛ فافترض فيثاغورس أن النجوم مرتبطة بكرة بلورية تدور يوميا حول محور مار بالأرض. كذلك، فقد كان يفترض أن كلا من الكوكب السبعة – الشمس والقمر وعطارد والمريخ والمشتري والزهرة وزحل- مرتبط بكرة متحركة خاصة به. وقد شكل هذا المفهوم، الذي تطور فيما بعد إلى نظرية في حركة الأجرام السماوية، أساسا لعلم الفلك استمر حتى القرن السادس عشر. وكان النموذج الفيثاغوري للسماوات معقدا في الواقع، وسنكتفي في هذا المقام بذكر سمة واحدة أخرى لهذا النموذج.
كان الفيثاغوريون يعتقدون بأن الأعداد هي المدخل لفهم نظام الكون، وكانت الأعداد بالنسبة إليهم الأعداد الصحيحة الموجبة 1، 2، 3، 4، … وقد شرح أرسطو اعتقاداتهم في كتابه الميتافيزياء (الميتافيزيقا) metaphysics على النحو التالي:
إن أولئك الذين يطلق عليهم الفيثاغوريون كرسوا أنفسهم لدراسة الرياضيات، وتوصلوا إلى الاعتقاد بأن مبادئها هي مبادئ كل شيء، ولما كانت الأعداد بحكم طبيعتها أول هذه المبادئ، فقد ذهبوا بخيالهم إلى أنهم يستطيعون أن يكتشفوا في الأعداد – أكثر من اكتشافهم في النار والأرض والماء – أشباها كثيرة لما هو موجود ولما يمكن أن يحدث. ولما كانوا قد رأوا أيضاً أن خواص السلالم الموسيقية ونسبها تستند إلى الأعداد، وأن الأشياء الأخرى جميعا تنمذج تماما بالاستعانة بالأعداد، وأن الأعداد هي جوهر الأشياء في الكون الفيزيائي بأسره، فقد افترضوا أن عناصر الأعداد هي عناصر كل شيء، وأن الكون برمته يمثل انسجاما أو عددا.
وفي الحقيقة، فقد اكتشف فيثاغورس علاقة ولافتة للنظر بين الأعداد والأصوات الموسيقية. فمثلا، إذا نقرتَ وترا مشدودا من آلة القيثارة الموسيقية، فإنك تحدث نغمة موسيقية؛ وتعتمد درجة النغم على طول الوتر المنقور.
وهكذا فإن العازف على آلة موسيقية وترية يولد أصواتا من درجات أنغام مختلفة بتغيير طول الوتر المهتز. وتتمثل الملاحظة المدهشة التي أوردها فيثاغورس في أن الأصوات التي تصدرها الأوتار تكون متناغمة (متآلفة الألحان) harmonious إذا كانت نسب أطوالها نسبا لأعداد صحيحة مثل 1 :2، 2 :3، 3: 4، أو 5 :8. وبهذه الطريقة، فمن الممكن شرح التناغم harmony بدلالة الأعداد الصحيحة. وكان لهذا الاكتشاف أهمية معنوية لدى الفيثاغوريين، الذين استخلصوا منه أن كل العلاقات في الطبيعة يمكن أن يعبر عنها بالأعداد الصحيحة. وقد ساقهم ذلك إلى الاعتقاد بأن نسب المسافات بين الأجرام السماوية لا بد من أن تكون مطابقة لنسب أطوال الأوتاد المتناغمة. وإذ ذاك تصدر الكرات السماوية لدى دورانها أصواتا متناغمة لا يتمكن من سماعها إلا الراسخون في العلم. وهذه هي موسيقا الكرات music of spheres التي يرد ذكرها في كثير من الكتب.
لعل المفهوم الفيثاغوري للتناغم السماوي أول نموذج مجرد حاول تفسير ظواهر طبيعية معقدة بالاستعانة بنظرية رياضياتية بسيطة متماسكة، وهذا يجعل من فيثاغورس شخصية جد هامة لدى دراسة تاريخ الرياضيات والفيزياء. لذا فإنه يستحق أن نلقي نظرة على حياته، ولو أن بعض تفاصيلها محاط بهالة من الخرافات والأساطير.
يروى أن فيثاغورس ولد في جزيرة ساموس قرب آسيا الصغرى. وقد زار تالس الذي شجعه على الدراسة في مصر، التي كانت مصدر الكثير من المعارف الأصلية التي اكتسبها تالس. وقد سافر فيثاغورس إلى مصر وأقام فيها عدة سنوات اكتسب خلالها معارف رياضياتية وروحية. ولدى عودته إلى ساموس أسس جمعية دينية وفلسفية. لكنه اضطر في النهاية إلى هجر وطنه الأم لأسباب سياسية، وتوجه إلى كروتون Croton في جنوب إيطاليا حيث كان له هناك مؤيدون وأتباع عديديون.
وقد كان للجمعية التي أسسها مجموعة صارمة من المعتقدات وقواعد ثابتة في السلوك، وبعد فترة اختبار معينة، كان يسمح لأعضاء الجمعية السريين الجدد بالاستماع إلى صوت سيدهم، ولكن من وراء حجاب. وعد انقضاء عدة سنوات، بعد أن تكون أرواحهم قد تطهرت باتباع نمط الحياة الفيثاغوري، كان يسمح لهم بأن يروا فيثاغورس. وكان الفيثاغوريون يعتقدون بأن الروح يمكن أن تسمو خلال الكرات إلى أن تتحد في نهاية المطاف مع الإله، وذلك بوساطة الرياضيات.
وينسب العديد من الاكتشافات الرياضياتية إلى هذه الجمعية- كمبرهنة فيثاغورس، مثلا، التي تنص على أن أضلاع مثلث قائم ترتبط فيما بينها بالعلاقة a2+b2=c2، حيث c طول أكبر الأضلاع و b ,a طولا الضلعين المتعامدين. وقد مكنت هذه المبرهنة الفيثاغوريين من اكتشاف الأعداد الصُمّ(1) irrational numbers كالجذر التربيعي للعدد 2 (2√)، عندما حاولوا دراسة مثلث قائم ضلعاه الصغيران متساويان. وطول كل منهما وحدة طول. وفي هذه الحالة، يجب أن يحقق ضلعه الأكبر المعادلة C2= 1+1= 2، ومن ثم c= √2. ونستنتج من هذا أن العدد 2√ يجب أن يكون موجودا، لأن هذا المثلث موجود ومن جهة أخرى، فليس من الصعب إثبات استحالة كتابة 2√ كنسبة لعددين صحيحين.
(1)يسمى العدد أصمّ irrational إذا لم يكن بالإمكان التعبير عنه كنسبة عددين صحيحين، أي إذا لم يكن كسرا مثل 39/17 ، 3/2 ، 63/14،..
لقد أصيب الفيثاغوريون بصدمة إثر اكتشافهم وجود أعداد صُمٍّ، لأن هذا يعرض اعتقادهم بأن كل شيء في الكون يمكن تفسيره بدلالة الأعداد الصحيحة ونسبها. ومن الواضح أنهم حاولوا في بداية الأمر إبقاء هذه الحقيقة المرة طيَّ الكتمان. وتروي إحدى الأساطير أن المكتشف هيپاسس Hippasus من ميتاپونْتَمْ Metapontum قذف به إلى البحر من على ظهر قارب كي يموت غرقا بعد توصله إلى هذا الاكتشاف خلال إحدى الرحلات البحرية. ولعل هذه هي المرة الأولى في تاريخ العلم التي يؤدي التفكير المجرد مباشرة إلى نتيجة قضت تماما على أفكار سابقة كان الناس يؤمنون بها.
إن السرية التي كانت تحيط بها الجمعية نفسها، والطقوس الدينية التي يفترض أن فيثاغورس قد تعلمها أثناء إقامته في مصر أثارت الكثير من الشُّبهات. وقد أُجْبِر فيثاغورس على الفرار إلى تارِنْتُوم Tarentum قرابة عام 500 ق.م، ثم إلى ميتاپونيم حيث جرى اغتياله. وقد واصل أتباعه نشاطهم في أمكنة أخرى حتى عام 400 ق.م، على الأقل.
بعد اندثار مدرسة فيثاغورس، استؤنفت دراسة الهندسة في مدارس يونانية أخرى، وثمة مبدأ أساسي في الرياضيات (بل وفي التفكير البشري على ما يبدو) يتمثل في تشييد بنىً متزايدة في التعقيد انطلاقا من بنىً بسيطة. وهكذا، فبدءاً من الخط المستقيم والدائرة، اللذين لهما خواص أصغرية لطيفة، تمكن اليونانيون من إنشاء البرهان على أن 2√ ليس نسبة لعددين صحيحيْن.
لإثبات هذا، سنفترض مؤقتا أن الجذر التربيعي للعدد 2 هو فعلا نسبة لعددين صحيحين، ثم نبين أن هذا الافتراض يؤدي إلى تناقض. إذا كان P/Q = 2√ حيث Q و p عددان صحيحان. فإننا نجد بعد تقسيم Q وp على جميع العوامل المشتركة لهما أنه يمكن التعبير عن 2√ بالشكل P/q حيث p و q عددان صحيحان موجبان ليس لهما عوامل صحيحة مشتركة. عندئذ نجد بعد تربيع طرفي المعادلة √2=P/q المساواة 2 2= p2/q، التي تصبح بعد ضرب طرفيهما بالعدد q2 بالشكل 2q2=p2. لنشكل الآن جدولا يبين احتمالات الأرقام النهائية (الآحاد) في العددين 22q، p2 :
إذا انتهى عدد بالرقم 0 1 2 3 4 5 6 7 8 9
فإن مربعه ينتهي بالرقم 0 1 4 9 6 5 6 9 4 1
وضعف مربعه ينتهي بالرقم 0 2 8 8 2 0 2 8 8 2
ومن الواضح أن q22 يجب أن ينتهي بأحد الأرقام الواردة في السطر الثالث في حين أن p2 يجب أن ينتهي برقم من السطر الثاني. لكن الرقم الوحيد الذي يظهر في كلا السطرين هو 0، من ثم فإن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يساوي بها q22 العدد p2 هو أن ينتهي هذان العددان كلاهما بالرقم 0، وهذا لا يمكن إلا إذا انتهى p بالرقم 0 و q بأحد الرقمين 0 أو 5. وفي كلتا الحالتين، يجب أن يكون كل من p و q قابلا للقسمة على 5، وهذا يناقض افتراضنا بأننا قسمنا p و q على كل العوامل المشتركة بينهما للحصول على p و q. ويبين هذا التناقض أن افتراضنا الأصلي بأن P/Q = 2√ يمكن أن يكون صحيحا. لذا فإن الجذر التربيعي للعدد 2 ليس نسبة عددين صحيحين.
منحنيات أكثر تعقيدا . وعلى سبيل المثال، لنجعل دائرة تتدحرج على خط مستقيم (بالطريقة التي تتدحرج بها عجلات قطار على قضبان سكة حديدية) أو على دائرة أخرى، ولننظر في المنحني الذي ترسمه نقطة مثبتة على محيط الدائرة المتدحرجة؛ يسمى هذا المنحني سيكلوئيداً (دُوَيْرياً) cycloid عندما تدور العجلة على خط مستقيم، وإبيسيكلوئيداً (دويريا خارجيا) epicycloids لدى تدحرجها خارج دائرة. وهيبوسيكلوئيداً (دويريا داخليا) hypocycloid عندما تدور داخل دائرة.
وتولد منحنيات أخرى تسمى تروكوئيدات (عجليَّات) trochoids بوساطة نقطة مثبتة على عجلة وليس بالضرورة على محيطها. وذلك لدى تدحرج العجلة على خط مستقيم، او على القسم الخارجي من دائرة أخرى إيبيتروكروئيدات (عجليات خارجية) epitochroids أو على القسم الداخلي من دائرة أخرى هيبوتروكوئيدات (عجليات داخلية) hypotrochoids.
هذا ويمكننا توليد نوع آخر من المنحنيات بإسقاط دائرة على مستوٍ على طول خطوط مستقيمة صادرة عن نقطة مثبتة، هي مركز الإسقاط (المصباح الضوئي في الشكل المرسوم في اليسار). يسمى المنحني الحاصل قطعاً ناقصاً، وهو أحد القطوع المخروطية الخمسة. وكما تدل هذه التسمية، فإن القطع المخروطي يولَّد لدى قطع مخروط دوراني بمستوٍ. ويمكن الحصول على مثل هذا المخروط بتدوير مستقيمٍ I ماراً بنقطة P حول محور A، كما هو مبين في الشكل الموجود في الصفحة 36. ويبدو الناتج مشابها لقمعي بوظة (جيلاتي) رأساهما منطبقان. وتسمى النقطة p رأس vertex المخروط. وتولِّد تقاطعات هذا المخروط بمستويات، كل منها يلاقي المخروط بأكثر من نقطة واحدة (كما هو مبين في الشكل الموجود في الصفحة 37)، خمسة قطوع مخروطية: القطع الناقص والدائرة والقطع المكافئ والقطع الزايد والخط المستقيم (وهذا الأخير غير مبين في الشكل).
ويوجد لكل قطع مخروطي، عدا المستقيم، نقطة بؤرية (محرقية) focal واحدة أو اثنتان: فللدائرة بؤرة واحدة، هي مركزها، كما هو الحال في القطع المكافئ؛ أما القطع الناقص والقطع الزائد فلكل منهما بؤرتان واقعتان على محوريهما الأساسيين. ونورد في البند التالي وصفاً لبعض الخواص الشهيرة لهذه النقاط.
وقد توصل إلى النتائج الرئيسية المتعلقة بالقطوع المخروطية أپولونيوس پِرْكا Apollonios of (262-190) Perga ق.م وقد أوردرها في كتبه الثمانية بعنوان القطوع المخروطية(1)، التي تمثل أول أربعة منها مراجعات لبحث أجراه إقليدس، وقد فقد هذا البحث فيما بعد، ولم يعثر له على أثر.
هذا وينسب اكتشاف القطوع المخروطية إلى ميناشمس Menaechmus، وهو ينتمي إلى مدرسة أفلاطون الرياضياتية. وقد ازدهرت هذه الدولة في أثينا المدينية (المؤلفة من مدينة أثينا والمناطق التي كانت خاضعة لسلطانها المباشر) خلال القرن الرابع، وذلك مباشرة بعد اندثار عصر پيركليس الذهبي، وهي الحقبة الكلاسيكية للفن والعمارة والفلسفة اليونانية، والتي تم فيها تشييد قلعة الأكروپوليس.
أسس أفلاطون، وهو أحد تلامذة سقراط، مدرسته الأكاديمية The Academy في بقعة مقدسة من أثينا تسمى هيكاديمياHekademeia (نسبة إلى بطل إغريقي اسمه هيكاديموس Hekademos. ) وقد اقتبست جميع الأكاديميات فيما بعد أسماءها من هذه المؤسسة التي وجدت على نحو مستمر دون انقطاع قرابة ألف عام، إلى أن حلها الامبراطور جوستنيان Justinian عام 529 ب.م. وكانت مدرسة أفلاطون شبيهة بجامعة صغيرة يعلم فيها الفيلسوف وأصدقاؤه بعض المواضيع للطلبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)نقل هذه الكتب إلى العربية هلال بن هلال الحمصي وثابت بن قرة تحت العناوين: "رسالة في المخروطات" و"رسالة في النسبة للحدود" و"رسالة في الدوائر المماسة" (المترجمان)
مخروط دورانيّ
وقد كان اثنان من أعظم علماء الرياضيات القدامى أوْدُكْسُسْ Eudoxus من كْنِيدوس Cnidos 408-355) ق.م) وثياتِيتوسْ 420-367) Theatetus ق.م) عضوين في الأكاديمية. ومع أن أفلاطون لم يكن رياضياتيا، فإنه كان يقدر هذا العلم حق قدره بحيث كان يطالب أي تلميذ بأن يكرس عشر سنوات للعلوم الرياضياتية وخمس سنوات أخرى للفلسفة الحقة. ويقال بأن الشعار الذي كان يزين مدخل الإكاديمية هو "لن نسمح بدخول هذا المكان لمن لا يعرف علم الهندسة (الرياضياتية) geometry.".
ويروى أن أفلاطون طرح المسألة التالية على تلامذته؛ اشرح حركة الأجرام السماوية بتركيب حركات دائرية كروية مختلفة. هذا ولم يكن أفلاطون يولي أهمية خاصة لعلم الفلك كعلم عملي مفيد للمزارعين والبحارة على حد سواء. لكنه كان يرى أنه يجدر تعلمه والاهتمام به كميدان للعاملين في علم الهندسة، إذ إنه مصدر للعديد من المسائل المفيدة.
ترى ما هي تلك المسألة التي طرحتها حركات الكواكب؟ إن هذه الحركات تبدو من الأرض معقدة تماماً. ففي حين يمكن وصف حركة كل من الشمس والقمر بأنها دائرية تقريباً وأنها تجري بسرعة ثابتة، فإن الانحرافات عن المسار الدائري كانت مصدر إزعاج لليونانين الذين شعروا بنوع من التحدي لإيجاد تعليلات لهذه الشذوذات، أما الأفلاك المرصودة للكواكب السيارة فكانت أعقد. وذلك أنه لدى قيام هذه الكواكب بإنجاز دورة في أفلاكها، فإنها كانت تعكس اتجاه حركتها في بعض الأحيان، ثم تعكس الاتجاه ثانية كي تسير إلى الأمام، وكان هذا كله يجري بسرعة متغيرة. وقد سعى اليونانيون إلى فهم هذه الحركة التي تبدو غير منتظمة وذلك بالاستعانة بنموذج هندسي geometrical model.
وقد انبرى أودكسس لحل هذه المعضلة، واقترح نظرية أنيقة وهندسية صرفة للحركات السماوية، على الرغم من أنها كانت تعاني عيباً خطيراً يتجلى في عجزها عن تفسير العديد من المعطيات التجريبية. لذا ارتأى أپولونيوس پركا ضرورة تفسير الأفلاك السماوية بالاستعانة بمجموعات من الحركات الدائرية، كما هي الحال في إنشاء الإبيسيكلوئيد. وقد حدث الفكرة أهم نظرية فلكية في الألفي سنة التالية. وقد أنجزها على نحو مفصل أعظم فلكي في العصور القديمة
هيپارخس Hipparchus ، وذلك في القرن الثاني قبل الميلاد. ونتاجه هذا معروف لدينا من خلال المجموعة الرياضياتية mathematical collection الشهيرة التي كتبها الفلكي اليوناني بطليموس الاسكندراني(1) في القرن الثاني بعد الميلاد والتي أطلق عليها فلكيو العصور الوسطى الناطقون بالعربية اسم المجسطي، أي "الأعظم". وقد أتم هذا الكتاب النظام المركزي الأرضي geocentric system في علم الفلك الذي عرف فيما بعد باسم النظام البطلمي ptolemaic system . وقد بلغت الثقة بنظرية بطليموس حدا جعل الناس في العصور الوسطى يظنون بأنها قد سلِّمت مباشرة إلى الإنسان من قبل الإله.
إن وضع الفلكيين اليونانيين الأرض، وليس الشمس، في مركز الكون ليس بالأمر المفاجئ ذلك أن الشمس تشرق كلَّ صباح، ثم تغيب تحت الأفق كل مساء. ومع ذلك، فإننا نحار في السبب الذي حال بين اليونانيين وبين التفكير على الأقل في النظام المركزي الشمسي heliocentric system الذي يضع الشمس في مركز الكون، لكن أريستارخوس الساموسي Aristarchus of samos تخيل فعلا مثل هذا النظام في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان يقول لطلبته إن الأرض والكواكب الأخرى تدور في أفلاك دائرية حول شمس ثابتة. لكن فرضيته هذه لم تحظ بالقبول لعدة أسباب: فلم يستطع اليونانيون تفسير كيف يمكن للأجسام أن تبقى مستقرة على الأرض المتحركة، ولماذا لا يشعر الناس بأن الأرض تتحرك، ولماذا لا تتخلف السحب عن الأرض المتحركة، وقد بقيت هذه الحجج تقام ضد النظرية المركزية الشمسية قرابة ألفي سنة، إلى أن
اقترحت هذه النظرية ثانية من قبل الفلكي نقولا كوبرنيك Nicolaus Copernicus.
تلقى كوبرنيك، المولود عام 1473، علومه في جامعة كراكوڤ Cracow في بولندا، ثم ذهب إلى إيطاليا لزيارة مدينة بولونيا Bologna التي كانت آنذاك المركز العلمي لأوروبا. وهناك تعلم كيف تجرى الأرصاد الفلكية، وهذا عمل أصبح شغله الشاغل فيما تبقى من حياته. وقد ضمن نتائج بحوثه المستفيضة في كتاب ذائع الصيت عنوانه حول دوران الأفلاك السماوية De Revolutionibus Orbium Coelestium. بسط فيه نظريته حول المركزية الشمسية للكون التي أدخلت في العلم "الدوران الكوبرنيكي" Copernican revolution. بيد أنه كان حذراً لدرجة جعلته يؤخر نشر أفكاره إلى وقت قصير قبل موته عام 1543. وفعلا فقد أدرج كتابه في قائمة الكتب المحظورة من قبل السلطات البابوية (عام 1616).
ولم يتعظ كاليليو كاليلي Galilieo Galilei كما ينبغي بهذا الأمر، وبالمصير الذي آل إليه الفلكي . G>برنو< Bruno الذي أعدم حرقاً عام 1600 بعد أن أدانته محكمة كاثوليكية بتهمة الهرطقة. وقد أصبحت المعارضة الكنسية لأفكار كوبرنيك شديدة. إذ إن هذه الأفكار شككت في نظرية مدعومة من قبل السلطات الكنسية. وفي عام 1632 نشر كاليليو كتابه بعنوان "حوار حول نظامين رئيسيين للعالم" Dialogue Concerning the Two Chief World System يناقش فيه الحجج المؤيدة والحجج المعارضة لنظرية المركزية الشمسية للكون. وقد عرضه هذا الكتاب لمواجهة مع الكنيسة وأسفرت محاكمته وإدانته واعترافه علنا بخطئه والحكم عليه بالإقامة الجبرية في بيته، وهو ابن السبعين عاماً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)Ptolemy of Alexandria عالم الفلك والجغرافية الذي سطع نجمه في الإسكندرية (127 – 151 م). وتجدر الإشارة هنا إلى ما جاء في مقدمة كتاب "الحسن بن الهيثم" (1039م) بعنوان "الشكوك على بطليموس" الذي يعبر بجلاء عن المنهج العلمي ويبسط سبل السعي في الكشف عن الحقائق العلمية:
"الواجب على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه، ويجيل فكره في متنه، وفي جميع حواشيه ويخاصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضاً نفسه عند خصامه، ولا يتحامل عليه، ولا يتسامح فيه فإذا سلك هذه الطريق، انكشفت له الحقائق وظهر ما عساه وقع في كلام من تقَّدمه من التقصير والشبُّهة…"
كاليليو كاليلي (1564 – 1642)
وقد اكتشف كاليليو، في وقت مبكر يعود إلى عام 1602، أن الأحجار الثقيلة تسقط على الأرض بالسرعة نفسها التي تسقط بها الأحجار الخفيفة. وهكذا فإنه توصل إلى قانون في علم الميكانيك النظري ينص على أن للأجسام الساقطة باتجاه الأرض تسارعاً (عجلة) واحداً، شريطة إمكان إهمال مقاومة الهواء لها. وينص دستوره الشهير s=16t2 على أن الجسم الساقط يقطع مسافة s (مقدرة بالأقدام) عندما تكون مدة سقوطه t ثانية. وقد استخدم كاليليو هذا الاكتشاف في حل مسألة قديمة في الحركة تتعلق بإيجاد مسارِ كرةٍ قذفت في الهواء، وأثبت أن مثل هذه الكرة تسير على طول منحن له هيئة القطع المكافئ، وذلك عند إهمال مقاومة الهواء لها. وربما كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ العلم التي يستعمل فيها قطع مخروطي (مغاير للدائرة أو الخط المستقيم) لوصف ظاهرة فيزيائية.
بيد أن ثورة علمية أخرى كانت على وشك الحدوث. فقد حرم الفلكي الألماني يوهان كلپر Johannes Kepler الدائرة مما بدا حتى ذلك الحين أن تكون الفلك الملائم الوحيد للأجرام السماوية. وبعد أن أنهى كپلر دراسته في توبنكن Tubingen أصبح أستاذًا للرياضيات وعلم الأخلاق في كراتز Graz. وفي عام 1600 قدم إلى براغ كمساعد لعالم الفلك الدانمركي الشهير تيخو براهه Tycho de Brahe الذي كان جمع كمية ضخمة من البيانات (المعطيات) الفلكية الجديدة التي فاقت كثيراً تلك التي كانت متيسرة لقدماء اليونانيين. وعقب موت تيخو براهه عام 1601، خلفه كپلر في منصب "عالم رياضيات امبراطوري" Imperial Mathematician في بلاط الامبراطور رودلف الثاني الذي كان يقيم في براغ. ولدى استخدام كپلر أرصاد تيخو براهه،
يوهان كپلر (1571 – 1630)
وجد نفسه مضطراً إلى استنتاج أن الكواكب لا تتحرك وفق أفلاك دائرية مركزها الشمس، بل وفق أفلاك ناقصية (إهليجية) تقع الشمس في أحد محرقيها. وهكذا أدخل القطع الناقص ميدان الفلك لأول مرة. وهو القطع الناقص نفسه الذي كان قد درسه أپولونيوس منذ ألفي سنة باعتباره كائنا رياضياتيا صرفاً.
ولم يكن قانون الأفلاك الناقصية (الإهليجية) سوى أول قانون من القوانين الأساسية الثلاثة في الحركة الكوكبية التي اكتشفها كپلر. وكان هذا الفلكي العظيم مقتنعاً بالتصميم الرياضياتي للكون، لكنه كان دوماً يتحقق صحة نظرياته بمقارنتها بالحقائق المرصودة، وعلى الرغم من أن بحثه عن تناسق رياضياتي قاده إلى جموح مذهل للخيال العلمي، فإن توصل في نهاية المطاف إلى قانونه الثالث المشهور الذي ينص على أن مربع الزمن T اللازم لكوكب سيار كي يتم دورة كاملة في فلكه يتناسب مع مكعب (طول) المحور الكبير a لفلكه الناقصي. وإذا أردنا استخدام الرموز الرياضياتية . فإنه يوجد عدد K مستقل عن الكوكب بحيث يكون T2= K . a3.
وينص القانون الثاني لكلپر على أنه إذا تحرك كوكب من نقطة A إلى نقطة B خلال مدة زمنية معينة، وتحرك من A´ إلى B´ خلال المدة ذاتها، فإن مساحة القطاعين SAB و SA’B’ يجب أن تكونا متساويتين. وبعبارة أخرى، فإن مساحات متساوية تمسح في أزمنة متساوية. وهذا يفسر سبب تزايد سرعة الكواكب أو المذنبات حين اقترابها من الشمس. وعلى سبيل المثال، فإن مذنب هالي Halley يحتاج إلى 75 سنة ليتم دورة كاملة في فلكه، إلا أنه لا يقضي سوى بضعة أيام قريباً جداً من الشمس.
إن اكتشاف هذه القوانين الجميلة، التي يمكن إدراجها في عداد أعظم الإنجازات التي جاء بها الفكر البشري، قادت كپلر إلى أن يسيطر في كتابه بعنوان انسجام العالم Harmony of the World (1619) الكلمات التالية:
إن حكمة الإله لا حدود لها، وكذا عظمته وقوته، أيتها السماوات، أثني عليه وسبحي بحمده! وأنتنَّ أيتها الشمس والقمر والكواكب مجديه بلغتك التي تفوق الوصف! وأيتها التناسقات السماوية التي تدرك آياته الرائعة، سبحي بحمده، وأنت يا روحي مجدي خالقك، الذي بوساطته وفيه يوجد كل شيء. إن أفضل ما نعرفه مشمول في ذاته الإلهية، وكذلك في علمنا التافه العقيم. له الحمد والإجلال والتعظيم إلى أبد الآبدين.
وهكذا فإن ما بدأ بكرات فيثاغورس وأدوكسس وبدوائر أپولونيوس وبطليموس وكوبرنيك استمر إلى قطوع كاليليو المكافئة، وانتهى بقطوع كپلر الناقصة. وقد استند نيوتن(1) في نظريته الناجحة جداً حول التثاقل(2) إلى نتائج كپلر وكاليليو. ومن هذه النظرية، اشتق أولر وصف حركات الكواكب حول الشمس، وطور عمله هذا لاكرانج وهاملتون وجاكوبي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- Isaac newton فيزيائي ورياضياتي وفلكي إنكليزي (1642 – 1727). وفي كتابه "المبادئ الرياضياتية للفلسفة الطبيعية" عرض ما أطلق عليه بعده "الميكانيك النيوتني"
- Gravitation ؛ وعندما يتعلق الأمر بالكرة الأرضية فنتكلم عن الثقالة (الجاذبية الأرضية).
يعتقد الفيثاغوريون بأن الكرات السماوية تولَّد أثناء دورانها أصواتاً متناغمة. ونورد هنا موسيقا الكواكب كما تصورها كپلر.
وقد أدت بحوث هؤلاء إلى مبادئ تغيرية variational principles يمكن أن يبنى عليها الميكانيك التقليدي كله. وواصلت البحوث تطورها وصولاً إلى الفيزياء الذرية والميكانيك الكمومي (الكوانتي) والنسبية العامة.
مسألة الملكة دِيدُو
ثمة خاصة أعظمية maximum للدائرة معروفة منذ العصور القديمة، ولهذه الخاصة صلة بقصة تدور حول ديدو Dido ملكة قرطاجة؛ وقد روى القصة الشاعر الروماني ڤيرجيل(1) Virgil في ملحمته الشهيرة إينيد Aeneid .
كانت ديدو أميرة فينيقية من مدينة صور (التي هي الأن جزء من لبنان). وقد فرت من صور على متن سفينة عندما اغتيل زوجها من قبل شقيقها القاسي الملك پيكماليون Pygmalion وذلك لاغتصاب ممتلكاتها. ولدى وصول (ديدو) إلى أفريقيا قرابة عام 900 ق.م وحلولها في موقع سمي فيما بعد قرطاجة، حاولت شراء أرض من الحاكم المحلي هناك، وهو الملك جربز، كي تستقر فيها هي وشعبها ويؤسسوا وطنا جديداً لهم. ويحتمل أن ديدو كانت مقتصدة، أو أن جربز لم يكن يريد إقامة مستوطنات جديدة في بلده، لذا فإن مساومتهم انتهت بشرط ألا تحصل الأميرة من الأرض إلا بقدر ما يمكنها أن تطوقه منها بجلد ثور.
وقد أفادت ديدو من ذلك إلى أبعد الحدود. فأولاً، فسرت كلمة "تطوق" بأوسع شكل ممكن. ويزعم أنها جعلت أفراد شعبها يقطّعون جلد الثور إلى قطع رفيعة وطويلة ثم يصلون هذه القطع بعضها ببعض مكونين بذك حبلاً مغلقاً طويلاً جداً. ويحتمل أن طول الحبل إلى ما بين 1000 و2000 ياردة إذا افترضنا أن عرض القطع كان صغيراً بقدر نحو 10/1 بوصة (إنش).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)70 – 19 ق.م. لم يستطع أن ينهي ملحمته المشار إليها، وكان تأثيره عظيماً في الأدب اللاتيني والغربي.
ثانياً، بسطت ديدو الحبل على الأرض بطريقة جعلته يحيط بأكبر مساحة ممكنة. وبافتراض أن الأرض كانت منبسطة، فإنه يمكننا تصور أنه كان على ديدو حل المسألة الرياضياتية التالية:
"حددي من بين جميع المنحنيات الممكنة التي لها طول معطى تلك التي تجعل من مساحة المنطقة المحصورة الداخلية أعظم ما يمكن". ويمكننا الافتراض بثقة بأن ديدو توصلت إلى الحل الصحيح، وهو دائرة طول محيطها هو الطول المعطى، حاصلة بذلك على مساحة بين 25 و60 فداناً إنجليزياً acre. ولو أنها ثبتت نهايتي حبلها في نقطتين من خط مستقيم افتراضي من شاطئ البحر الأبيض المتوسط ونشرت الحبل على شكل نصف دائرة، لحصلت على مساحة أكبر من الأرض؛
خريطة لكولونيا تعود إلى العصور الوسطى
وهذا هو في الحقيقة ما فعلته، كما تروي القصة. وإذا نظرت إلى خرائط المدن المسورة الأوروبية في العصور الوسطى. فإنك ستجد أن سكانها توصلوا إلى النتائج نفسها التي توصلت إليها ديدو.
كان اليونانيون على علم تام بالمعضلة الرياضياتية التي تسمى "مسألة المحيطات المتساوية" (1)(المسألة الإيزوپريمترية)(2) isoperimetric problem، وكان لهم دواعٍ عملية واضحة لمعالجة هذه المسألة. فمثلا، هل يمكن معرفة مساحة جزيرة انطلاقاً من الزمن اللازم للإبحار حولها؟ يتضح من الشكلين المبينين في الأعلى أننا قد نقترف أخطاء جسيمة إذا كان ردّنا على هذا السؤال بالإيجاب.
وكان الشطار من الناس يعرفون أن قطعة من الأرض. ذات محيط صغير قد تكون أكبر مساحة من قطعة أخرى ذات محيط أكبر. لذا كان بإمكانهم خداع الملاك الأقل ذكاء عند مبادلة الأراضي. إذ كانوا يقيسون مساحة حقل بالزمن اللازم للدوران حوله. وقد ذكر مثل هذه الأوضاع پروكلس Proclus قرابة عام 450 ب.م. في تعقيبه على كتاب إقليدس الأول. وسنعود لاحقاً إلى مسألة المحيطات المتساوية لنرى أنها كانت واحدة من أكثر المسائل إثارة وأهمية في تاريخ الرياضيات.
ومن قبيل المصادفة، فإن إينيد التي كتبها ڤيرجيل هي قصة إينياس طروادة(3) الذي فر على ظهر سفينة مع بعض أتباعه، بعد أن سقطت مدينته، راحلاً من آسيا الصغرى عن طريق البحر الأبيض المتوسط. ونزل في نهاية المطاف في البر الإيطالي حيث أسس مدينة روما. وخلال رحلاته توقف إينياس في قرطاجة حيث قابل ديدو التي هامت به وعزمت على الزواج منه لكن جوپيتر Jupiter تدخل وأمر إينياس بترك ديدو، التي قتلت نفسها من شدة ما أصابها من يأس. ولهذا السبب فقد حكم عليها دانتي Dante في الكوميديا الإلهية Divine Comedy بأن تدخل الدائرة الثانية من جهنم. وقد أعاد هذه القصة موسيقيا . H>پورسِيْل< Purcell في أيام ارتقاء إنكلترا إلى الإمبراطورية، وذلك من خلال الأوبرا التي ألفها بعنوان ديدو وإينياس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ظهر أول برهان على خاصة المحيطات المتساوية للدائرة في تعليق >ثيون< theon على كتاب >بطليموس< المجسطي وفي مجموعة أعمال >پاپس< (قرابة عام 340 ب.م.) وذلك لأنه يقتبس من أرخميدس ويستشهد به پاپس، ولكن برهان زينودورس يحوي ثغرة لم تسد إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين أورد عالم الرياضيات الألماني >فيرشتراس< برهاناً كاملاً لتلك الخاصية في محاضراته التي كان يلقيها في جامعة برلين.
- باللغة اليونانية isos = perimetron = محيط
- Aeneas of troy
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]