الرياضيات والهندسة

أقصر الوصلات وأسرعها

2000 الرياضيات والشكل الأمثل

ستيفان هيلدبرانت و انتوني ترومبا

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

الرياضيات والهندسة الهندسة

لا بد أن نكون جميعاً قد عالجنا في وقت أو في آخر، مسألة في حسبان التغيرات calculus of variations.  فعندما نخطط للقيام برحلة في السيارة، فإننا نتساءل عن أقصر أو أسرع طريق يوصلنا إلى غايتنا. لكن الإجابة عن هذين السؤالين ليست واحدة بالضرورة: فقد يكون من الأسرع اجتياز طريق رئيسي طويل بدلاً من سلوك وصلة قصيرةٍ مؤلفة من طريق ضيق ومتعرج في منطقة جبلية.

لقد كانت المسائل من هذا النمط مثار اهتمام الرومان الذين ربطوا إيطاليا بمقاطعات أخرى من إمبراطوريتهم بوساطة شبكة رائعة من الطرق. وقد مكنت الطرق الجيدة جحافل الرومان من التنقل السريع لإخماد أي ثورة قد تحدث هنا أو هناك. لكنها أيضاً جعلت وصول الثورات إلى روما بسرعة كبيرة ممكناً.

لقد أصبحت مسألة أقصر الوصلات وأسرعها مهمة على نحو خاص للقوى الأوروبية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حين كانت تبحث عن أفضل الطرق الموصلة إلى الشرق الأقصى والعالم الجديد. وقد كانت الطرق البحرية الأسرع تبشر بفوائد أكبر، إلا أنه يجب النظر إلى الحملات الشهيرة التي قادها فاسكو دي كاما Vasco de Gama وكريستوفر كولمبوس Columbus  من خلال أسباب اقتصادية في المقام الأول.

ولا غرابة في أن تصبح الهيئة الكروية للأرض في هذه الحقبة من الزمن من المعارف الشائعة لدى الناس. وقد كان اليونانيون القدماء يتصورون الأرض قرصاً منبسطاً تحده المحيطات من جميع جهاته ويلتحف بالقبة السماوية.

 

 لكن فيثاغورس كان يعلِّم تلامذته أن الأرض كروية في هيئتها، كما حاول كل من أرسطو طاليس وأخميدس تقديم البراهين على صحة هذا الأمر. أما إرَاتُوسْتينِسْ 275-195) Eratosthenes ق.م تقريباً)، الذي كان رئيس مكتبة الإسكندرية، فقد سار شوطاً أبعد إذ توصل إلى قيمة دقيقة إلى حد ما لمحيط كوكبنا، وهي 37000 كيلومتر. في حين كانت الهيئة الكروية للأرض معروفة جيداً من قبل الناس المتعلمين في اليونان القديمة. فإن هذه الحقيقة الجغرافية كانت لا تذكر إلا لماماً في العصر الروماني الاحق. ولما كان معظم رجال الكنيسة يستخلصون من الكتاب المقدس أن الأرض يجب أن تكون قرصاً مسطحاً، فإن الأرض كانت ترسم كعجلة تقع القدس في مركزها. ومع ذلك، فلم تنس تماما الجغرافية اليونانية، إذ أعيد الاهتمام بها في عصر النهضة الذي ترعرع فيه العلم. وفي عام 1492. الذي اكتشف فيه كولمبوس أمريكا، جرى تصميم كرة أرضية لأول مرة منذ العصور القديمة من قبل .M>بيهيم< Behaim. وإذ توسعت التجارة والملاحة، غدا إعداد خرائط دقيقة من المهام العلمية الرئيسية. وكان رسام الخرائط G>مركاتور< Mercator من أوائل الذين أعدوا خرائط تستند إلى مبادئ رياضياتية. (وفي الحقيقة، فقد كان (كاوس) هو الذي أدرك، ولكن في وقت متأخر، المبادئ الرياضياتية الأساسية لرسم الخرائط. وسنتطرق إلى بعض إنجازاته في هذا الموضوع فيما بعد).

لقد أسس النظرية الرياضياتية لأقصر الخطوط على سطح، كسطح الأرض مثلا، الأخوان جاكوب ويوهان برنولي، وذلك عام 1697. وقبل أن نقوم بتعرف هذه النظرية، فإننا سندرس بعض المسائل الأبسط التي يمكن الإجابة عنها بإجراء محاكمات لا تستند إلا إلى الهندسة الابتدائية.

لقد طرحت أول مسألة سنعالجها الآن وحلت من قبل  .A.H>شوارز Schwarz < الذي كان أستاذاً في جامعة كوتنكن ثم في جامعة برلين، وهو واحد من أبرز البحاثة في حسبان التغيرات في القرن التاسع عشر. وكان غالباً ما يستمتع بالكتابة في مواضيع ابتدائية، وقد وردت المسألة التالية في إحدى أوراقه.

 

 

إذا أعطيت مثلثاً حاد الزوايا، فارسم مثلثاً محاطاً (بالمثلث المفروض) بحيث يكون محيطه أصغر ما يمكن.

هذا ونعني بالمثلث المحاط inscribed triangle بمثلث مفروض ABC.  مثلثاً PQR تقع رؤوسه (P ، Q ، R) على ثلاثة أضلاع مختلفة من المثلث ABC(1).

 إن الإجابة عن هذه المسألة ليست واضحة إطلاقاً. فقد وجد شوارز أن المثلث المحاط ذا المحيط الأصغري هو مثلث الارتفاعات Altitude triangle أي المثلث الذي رؤوسه  R. Q. P هي مواقع الأعمدة النازلة من رؤوس المثلث ABC على أضلاعه المقابلة لهذه الرؤوس.

لنتعرف أسباب كون هذا المثلث حلاً لهذه المسألة. يترتب على مبدأ هيرون أن الحل يجب أن يكون مثلثاً ضوئياً LIGHT TRIANGLE. ترى، ما الذي نعنيه بهذا ؟ إذا فكرنا بالمثلث ABC كغرفة مثلثية جدرانها مرايا، فإن مثل هذا المثلث المحاط يمثل طريقاً مغلقاً لسير شعاع ضوئي في الغرفة. وهكذا فإن الزاويتين المتجاورتين عند كل من رؤوس هذا المثلث يجب أن تكونا متساويتين (انظر المثلث السفلي في اليمين). وبإجراء مناقشة هندسية، فإننا نستطيع أن نستنتج  مثلث الارتفاعات هو المثلث الضوئي المحاط الوحيد.

قد تظن أننا استطعنا بالمناقشة السابقة تقديم برهان كامل على مبرهنة شوارز، إلا أننا لم نفعل ذلك، إذ إن كل ما أثبتناه هو أنه إذا وجد حل لهذه المسألة، فيجب أن يكون هذا الحل مثلث الارتفاعات. قد يبدو هذا وكأنه جدل بيزنطي(2)، لكنه من الضروري تماما أن نكون شديدي التدقيق في البرهان. ولإقناعك بهذا، تصور أن ضابط شرطة وجد جثة رجل وأن لديه 17 شخصاً مشتبهاً فيهم، وأنه، فضلاً على ذلك، واثق تماماً من أن القاتل لا يمكن أن يكون إلا واحداً من هؤلاء، ولدى تجميع كل الأدلة والتحقق من أمكنة وجود المتهمين عند وقوع الجريمة، فإنه

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. كان بإمكاننا أن نطلب تحديد المثلث المحاط الذي يكون محيطه أكبر ما يمكن، لكن حل هذه المسألة واضح تماماً، إذ إنه المثلث ABC ذاته.
  2. جدل حول أمور تافهة جداً                     (المترجمان)

خفض عدد المشتبه فيهم واحداً تلو الآخر، ولم يبق في النهاية إلا متهم واحد فقط، وهو الخادم. لذا فإن الخادم هو القاتل، ولكن مهلاً، فإن هذا الضابط حذر جداً، إذ إنه بعد تفحص الأدلة ثانية، تمكن من البرهان دون ريب على أن هذا الرجل الميت توفي منتحراً، لذا فليس هناك أي قاتل، وهذا هو جوهر الموضوع: فلا يكفي العثور على شخص وحيد معين مشتبه فيه بالجريمة التي تحقق فيها، إذ يتحتم عليك أيضاً إثبات أنك أمام جريمة قتل.

وينطبق هذا المبدأ نفسه على مسألتنا الرياضياتية، فمثلث الارتفاعات هو مرشحنا الوحيد لأن يكون حلاً لمسألة شوارز. بيد أنه يتعين علينا البرهان على وجود حل للمسألة.

قد تشعر بالإحراج إذا وقعت في شرك الظن بأن لدينا برهاناً كاملاً، بيد أنك لست الوحيد في ذلك، إذ إن أعظم علماء الرياضيات، ومن بينهم ريمان  Riemann، ارتكبوا هذا الخطأ. وكان الأستاذ في جامعة برلين . k>ڤيرشتراس < Weierstrass، هو الوحيد الذي أقنع معاصريه عام 1869 من خلال مثال مدهش بأنه بغية حل المسائل الأصغرية، فإنه يجب عدم الاكتفاء باستعراض جميع الحالات الممكنة للحل، إنما يتحتم أيضاً إثبات أنه يوجد للمسألة حل واحد على لأقل.

وهاك مثالا آخر إن لم يبدد المثال السابق جميع شكوكك.

نحن نعلم أن العدد 1 هو أصغر الأعداد في مجموعة الأعداد الصحيحة الموجبة 1، 2، 3، 4، 5، … فإذا افترضنا وجود عدد يكون أكبر أعداد المجموعة، فإننا "سنبرهن" الآن على أن 1 هو أيضاً أكبر أعداد هذه المجموعة. لهذا نأخذ أي عدد صحيح n لا يساوي الواحد. عندئذ يكون n أصغر من n2، الذي هو عدد صحيح أيضاً، وهكذا فلا يمكن أن يكون n أكبر الأعداد، ومن ثم، فإن العدد 1، الذي هو الاحتمال الباقي الوحيد، يجب أن يكون أكبر الأعداد 1، 2، 3،

إن الخطأ الوحيد في هذه المناقشة هو افتراضنا وجود أكبر عدد في هذه المجموعة.

وبعد أن طرح  >فيرشتراس< هذا النقد، ابتكر علماء الرياضيات نمطاً من المحاكمة، يعرف باسم الأسلوب المباشر في حسبان التغيرات، يمكنهم في أغلب الحالات من إثبات وجود حل لمسألة أصغرية أو أعظمية معطاة. وفيما يتعلق بمسألة شوارز، فمن حسن الحظ أنه من السهل، إلى حد ما، إثبات وجود حل باتباع مناقشات هندسية ابتدائية.

من أجل هذا، نختار نقطة كيفية p على الضلع AC كما نرى في يسار الصفحة المقابلة، ثم نأخذ خيالهما p1 و p2 بالنسبة إلى الضلعين  AB،BC  باعتبارهما مرآتين، بعد ذلك نأخذ نقطتين أخريين Q و R على الضلعين AB و BC على الترتيب، وننظر في المثلث المحاط PQR. من الواضح أن محيطه يساوي الطول الكلي L للخط المنكسر  P1QRP2، أي إن:

L = P1Q+ QR+RP2

وإذا ثبتنا P على  AC، فإن هذا الطول L سيكون أصغرياً إذا وقعت كل من النقطتين Q ، R على المستقيم المار بالنقطتين P2, P1، وعندئذ يساوي L المسافة P1P2 بين النقطتين P2, P1.

وهكذا فإن مسألة شوارز تؤول إلى السؤال عن وجود موضع للنقطة P على الضلع AC بحيث تكون المسافة P1P2 أصغرية. ونحن ندعي بأن هذه المسافة تكون أصغر ما يمكن عندما تكون P  موقع العمود النازل من B على الضلع AC. لنلاحظ أولاً أن المثلث P1BP2 متساوي الساقين، لأن P تقع على مسافة واحدة من النقاط الثلاث P2,P1,P؛ أي إن P1B= PB= P2B. وفضلاً على ذلك، فإن زاوية رأس هذا المثلث المتساوي الساقين مستقلة عن موضع P (كما يمكن أن نرى ذلك من القسم C من الشكل في يسار الصفحة المقابلة، حيث إن هذه الزاوية تساوي ضعف الزاوية B في المثلث ABC) ويكون للمثلث المتساوي الساقين الذي زاوية رأسه معلومة أصغر قاعدة ممكنة (وهي في هذه الحالة P1P2 ) عندما يكون طول ساقيه المتساويتين أصغرياً، ومن ثم عندما يكون PB أصغرياً.

 

ولما كانت أصغر مسافة بين نقطة ومستقيم هي طول العمود النازل من النقطة على المستقيم، فإنه يترتب على ذلك أن PB يكون أصغرياً إذا كانت P منطبقة على موقع العمود النازل من B على  AC.

وهكذا نكون قد أثبتنا أنه يوجد لمسألة شوارز حل، وأن هذا الحل هو المثلث PQR (انظر القسم b)، الذي تكون p فيه موقع العمود النازل من B على AC (انظر القسم d)، وتكون Q و  R نقطتي تقاطع المستقيم P1P2 بالضلعين AB و BC على الترتيب

 

ولما كان مثلث الارتفاعات هو المثلث الوحيد الذي يمكن أن يكون حلاً، فإننا نستنتج أن مثلث الارتفاعات هو الحل، بل الحل الوحيد، لمسألة شوارز، كما سبق وادعينا.

وننهي تعليقاتنا على هذه المسألة بملاحظاتنا أنه، إضافة إلى المثلث الضوئي، فهناك مسارات محتملة أخرى للضوء، كما هو مبين في الشكل الموجود في الأعلى، وجميع هذه المسارات تتبع قانون الانعكاس. لكن مثلث شوارز هو المسار المغلق الوحيد للضوء المؤلف من ثلاث قطع مستقيمة فقط.

وكما رأينا، فمن الضروري البرهان على أنه يوجد فعلا حل لمسألة رياضياتية معطاة. لكنك قد تظن أن أي مسألة رياضياتية "معقولة" لا بد من أن يكون لها حل. وهاك مثالاً يثبت خطأ هذا الظن.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى