التاريخ

المراحل الزمنية لتطوُّرِ “الحِرَفِ” عبر التاريخ

1997 موسوعة الكويت العلمية للأطفال الجزء الثامن

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

الحِرَفِ التاريخ المخطوطات والكتب النادرة

بدْءُ ظُهور الحِرَفِ معُ بدايةِ الحياةِ البشريةِ مُنذُ فجرِ التاريخ.

وتُعتبرُ الحِرفُ منْ بينِ أنشطةِ العَمَل البشريةِ الهادفةِ التي تُحقِّقُ جانباً ممَّا استخْلَفَ اللهُ الإنسانَ فيهِ لتعميرِ الأرضِ والكَوْن.

وقدْ عَملَ الرُسُلُ والأنبياءُ عليهم الصلاةُ والسلام في حِرَفٍ شتّى ومُتبايِنةٍ تقديراً لِقِيمةِ العَمل اليَدويَّ، وَتَشجيعاً لأفرادِ المُجتمع على مُمارسَتهِ.

 

فاشتغلَ نوحٌ بالنّجارة قال تعالى(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) هود 37.

واشتغلَ داود بِصناعةِ الأسلحة والدُّروعِ قال تعالى(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) الأنبياء 80.

اشتغلَ موسى بالرَّعيِّ والسِّقاية قال تعالى(وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ) البقرة 60.

كّذلك اشتغَل خاتَمُ الأنبياءِ وسيِّدُ العالمينَ مُحمَّد، صلَّى اللّهُ عليهِ وسلّم، بالرَّعْي وبالتّجارةِ.

 

وقد جاء في الحديثِ الشريفِ أنَّ اْلنبيَّ، صلّى اللّه عليه وسلّم قال «ما أكَلَ ابنُ آدَمَ طعاماً قطُّ خَيْراً مِنْ أنْ يَأكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». وقد أمرَ الرسولُ أحدَ المُتَعبِّدين بأنْ يَعمَلَ ويَحْتَطبَ حتى يَعولَ نفسَهُ ولا يَعولُهُ أحدٌ غَيْرُهُ.

وقال أحدُ الصَحابةِ «إني لأرى الرجُلَ فَيُعْجِبُني فأسأَلُ، هل مِنْ حِرْفَةٍ ؟ فإذا قالوا لا .. سَقَطَ مِنْ نَظَري».

الحِرفةُ إذن، هي ذلك النشاطُ البشريُّ الذي يَعتمدُ على حَرَكةِ ومَهارةِ اليَدينِ وقُوةِ وسلامةِ الجِسمِ والعَقْلِ لِتَحقيقِ هَدَفٍ مُعيّنٍ، أو لإنتاج سِلْعةٍ ما. واعتمَدَتِ الحِرَفُ في الأزْمنةِ السابقةِ على تَولَّي الفَرْدِ القيامَ بتأدية كافّةِ خُطُواتِ العَمَلِ في مراحِلِه المُتتابِعةِ خُطوةً تِلْوَ الأُخْرى، حتى تَخرجُ السّلعةُ في صُورَتِها النَّهائيةِ.

 

وقدْ استخدَمَ الفردُ لذلك كافةَ خَصائصِهِ البدنيةِ والعَقليةِ في تحويلِ الموادِ الخام المُتوفّرةِ في البيئةِ المحلِّيةِ منْ صُوَرِها الأولية إلى هَيئةِ سِلَعٍ ومُنتجاتٍ يُمكنُ لهُ ولِغَيرِهِ أنْ يَستَخدمها ويَفيدَ منْها.

ومع نشأةِ الحِرفِ بدأ التوصُّلُ إلى أُسُسِ التكنولوجيا والصِناعةِ، حيثُ تَعْتَمِدُ أعقدُ وأرقى التكنولوجيا الحديثةِ على العديدِ منَ المهاراتِ اليدويةِ البشريةِ، والتي تَتَحكّمُ في إدارةِ الآلاتِ وتَشغيلِ الحاسِبِ الآليَّ والروبوت، وفي التَحكُم منْ بُعد في السُفُن الفَضائيةِ، وفي الاتصالاتِ وغيرِها.

مرَّ تاريخُ تطوُّرِ الحِرَفِ بأربعَ مراحل زمنيةٍ مُتعاقبةٍ ، تمكّنَ الإنسان خِلالها من إشباع حاجاتِهِ ورَغباتِهِ المُتغيرة والمُتجدِّدة.

 

فمنذُ ظهور الأُسرةِ كَنواةٍ للمجتمع ، تَضافَرَت جُهودُ المَرأة إلى جانبِ الرَجلِ، وسَعى رَبُّ الأسرةِ لِتوفيرِ مُتَطلباتِ الحياةِ لهُ ولمنْ يَعولُهم منْ أفرادِ أسرتِهِ (زوجَتِهِ وأبنائِهِ)، فكان عليه أن يكدَّ في طَلبِ المأكلٍ والمَشربِ، وأنْ يُوفِّرَ المَسكَنَ والملبَسَ.

وفي سبيلِ ذلك كان عليهِ أن يَسْتَخدمَ بعضَ الأدوات، فَصَنَعَ الفَأسَ والمِنْجَلة والمِقْطَف ليَحْتَطبَ، والرَّماحَ للصيدِ، والسكاكينَ للتقطيعِ، والمَغازِلَ لِعَمَلِ الخُيوط.

وفي المرحلةِ الأولى لِظُهور الحِرفِ تأكَّد التعاونُ بينَ الرّجُل والمرأةِ ( نُواةِ الأُسرةِ والمُجتمع). فَبينما تولَّى الرجلُ مُمارسَةَ المهامَّ الصَّعبةِ خارجَ المَنْزلِ، واحتراف مهن الصيّد في البرِّ والبحر والزراعة.

 

تولَّتِ المَرأةُ مَهَمّةَ إدارةِ شُؤون البيت، ورِعايةِ وتَعليمِ الأولادِ في السنَّ الصغيرةِ، وتَدريبِهِم على التّعاوُن. وقامتْ المرأةُ في هذِهِ المرحلةِ بإعدادِ الطعامِ، والملابِسِ المناسِبةِ لأفْرادِ أسرتها ومع ازديادِ عددِ افرادِ الأسرةِ كان الأبُ مُعَلِّماً لأبنائِهِ منَ الذُّكورِ.

وتَولّتْ الأمُّ تَدريبَ بناتِها على ما يُناسبُهنّ في مراحلِ أعمارهِنَّ السَّنيةِ المُختَلِفةِ، وهُنا بدأ التَحايُزُ للتَفريقِ بينَ بعضِ الأنشطةِ التي تُناسبُ البنين، عن تلكَ التي تُناسِبُ البناتِ.

وقدْ أدّى نِظامُ الأُسرةِ في هذهِ الحِقبةِ إلى تَفوُقِ إحدى الأُسرِ في صِناعةٍ معيّنةٍ على باقي الأُسُرِ، نظراً لما يَتَوفّرُ لها منْ خَاماتٍ بيئيةٍ ومهارةٍ في التَّعامُلِ معْ هَذِهِ الخاماتِ، لِتحْويلِها إلى سِلَعٍ جيدةٍ تَفُوقُ غَيْرَها منَ السِلَع المُناظِرة.

 

ومَع التّوَسُّع في الزِراعةِ ظَهرتِ الحاجةُ إلى تَبادُلِ السِّلَعِ بينَ الأُسَرِ المُنتِجةِ سِلْعةً بِسِلْعةٍ حتى تَتَمكّنَ كافّةُ الأُسَرِ وأفرادُها من تَلبيةِ احتياجاتِها الحياتيةِ ومُمارسة العُملِ في مُحيطِ الأُسرةِ والمُجتمعِ.

وقدْ بَدَأت المرحلَةُ الثانيةُ مع بداياتِ التخصصِ في اكتسابِ المهاراتِ اللازمةِ لحرفةٍ مُعيّنةٍ، وازدادَ الاعتمادُ على الأدواتِ اليدويةِ البَسيطةِ في مُمارسةِ أنشطةِ الحِرَفِ الأوليةِ المُختلِفةِ اللازمةِ للصيْدِ وللرعي وللزراعةِ، وقطعِ ونقلِ الأخشابِ.

كما تَخصصتْ بعضُ الأُسرِ في صِناعةِ بعضِ الأدواتِ الّلازمةِ لحرفةِ مُعيّنةٍ، والعملِ بهذهِ الحرَفِ، ومنْها حِرَفَ الغَزلِ، وصِناعةِ السكاكينِ الحديديةِ وأدواتِ القَطْعِ. ونَقْلِ الأخشابِ والبَضائِعِ على العَرَبات.

 

وقدْ نشأَ في هذِهِ الحِقْبةِ الزَمنيةِ نِظامُ الطَبَقاتِ الذي اعتمدَ على تَخصيص أفرادِ الأُسرةِ في حِرْفَةٍ مُعَيّنةٍ، وأصْبَحتِ الأُسرةُ تُعرَفُ أو تُلقَّبُ بالحِرفةِ أو المِهنةِ التي يُمارسُ أفرادُها أنْشِطَتِها.

وظهرتْ ألقابٌ لعائلاتِ الحدّادِ، والنجّارِ، والنّساج، والقلاّفِ، والسّروجي…الخ. وقد انعكسَ فيما بعدُ لَقبُ الأُسرة على الطبقةِ أو الطائفةِ التي ينتمي لها أفرادُ الأُسرِ المختلفةِ.

لقد كان الهدفُ من تَخصصِ كُلِّ أسرةْ في حِرْفَةٍ معينة هو اهتمامُ الأبِ بتدريبِ أبنائِهِ وإكسابِهم مهاراتِ التعامُلِ مع الأدواتِ المُستَخْدمةِ في الحِرفةِ إلى جانبِ تَوفيرِ مُتطلباتِ الحياةِ والمَعيشةِ لأفرادِ هذه الأُسرةِ. وحتى اليوم ما زالتْ هذه الظاهرةُ قائمة في بَعضِ البلدان النائية والفقيرة،وخاصة في الدولِ الناميةِ.

 

ومعَ تقدم الحضارةِ وازدهارِها ظهرتْ بعض الصِناعاتِ الجديدةِ التي تَعتَمدُ إلى حدَّ كبيرٍ على آلاتٍ يَدويّةٍ أكثرَ تَعقيداً منْ سابِقاتِها، فَظَهرتْ بعضُ حِرَفِ البناءِ والرفعِ باستخدامِ الأوناشِ، وتشغيلِ الأخشابِ.

وقدْ ظَهرتْ بعدَ ذلكَ بعضُ الحِرَفِ التكميليةِ، والمُغذَّيةِ للصناعات، مثلُ سَحقِ الصخور، والموادِّ الصلبةِ، وطَرْقِ الحَديد، وإدارةِ الماكيناتِ والعَجلاتِ الدَوَّارةِ بالأرجُلِ، واستخدامِ السيورِ وغيرِها وغيرِها الكثير.

أما المَرحلةُ الأخيرةُ في مَراحلِ تطورِ الحِرَفِ والأدواتِ، فقد بَدأّتْ مع بدايةِ الثورةِ الصناعيةِ في القرْنِ الثامنَ عشرَ، فقدْ تَوصّلَ أحدُ العُمالِ الألمان (هارجريفز) المُشتَغلين بِحِرفةِ الغزْلِ من ابتكارِ آلةِ غَزلٍ جديدةٍ تُؤدِّي أكثرَ مِنْ خطوةٍ منْ خُطواتِ الغَزلِ في وقتٍ واحدٍ، الأمرُ الذي أدّى إلى تقليلِ زمنِ الإنتاجِ ومِنْ ثمَّ إلى مُضاعَفَتِهِ إلى ثمانيةِ أضعافِ المُعدّلاتِ المعروفةِ والشائعةِ آنذاك.

 

وقد أدّى ذلكَ بِدَوْرِهِ إلى إثارةِ سَخْطِ زُملائِهِ مِنْ عُمّال الغَزْلِ في قَريَتِهِ، واعتبروا أنَّ ذلكَ الاختراعَ مُنافَسةٌ غيرُ شريفةٍ لهم، فما كان منهم إلاّ أن هاجموا الآلة وحطمّوها، إلاَّ أَنَّ هارجريفز نجا بِنَفْسِهِ وبِفِكرَتِهِ، وانتقلَ إلى بَلدةٍ أُخرى صَنَعَ فيها أكثرَ من مغْزَل مُشكَّلاً أولَ مَصنعٍ ألماني للغزل سنة 1768.

ثم توصّلَ جيمس وات سنة 1790 بعد ذلك إلى اختراعِ الآلةِ البُخاريةِ إيذاناً ببدءِ الثورةِ الصِناعيةِ التي نَشهدُ ثِمارَها الآن يوماً بعدَ يومٍ، على سَطحِ الأرضِ، وفي أعماقِ البحارِ، وعبرَ الفضاءِ الخارجي.

وهكذا تَطوَرت الحرفُ والمهاراتُ اللازمةُ لها ، والعُددُ والأدواتُ المُستخدَمةِ فيها مِنْ يَدويةٍ إلى نِصْفِ آليةٍ، وأخيراً إلى أوتومائيةٍ.

 

يُمَثِّل الشكل مُستواتِ العُمال الفنية في إحدى الصِناعاتِ المعروفةِ والشائعةِ، مثلِ صناعةِ السيارات أو النسيج، أو المباني، أو النقلِ، أو الاتصال… إلخ، ويَضُمّ المصنَعُ، بتَنظيمِهِ المُتعارف عليهِ، عدداً منَ العاملينَ المُتخصصينَ في كل مُستوى مِنْ هذهِ المُستَوياتِ الموضحةِ في الشكلِ، بحيثُ يُشرِفُ المِهنيُّ الواحدُ على عددٍ من الحِرفيين التابعينَ لهُ.

كما يُشرِفُ المِهنيُّ الفنيُّ على عددٍ منَ المِهنيينَ يَرأسُهُم وهكذا، بحيثُ يُشرِفُ المُهَندسُ أو مجموعة منَ المُهندِسين على كافةِ المُستوياتِ الفنيةِ المُتخَصصةِ في المَصنَعِ.

وتَجدُر الإشارةُ هنا إلى أنَّ نِسَبَ مساحاتِ الأشكالِ الهَندسية الموضحة لكلِّ مُستوى مِنها يتَناسبُ وعددَ العاملينَ التطبيقيينَ يَزيدُ على عددِ المُهندسينَ، ويقلُّ عددُ الفنيين، وأنَّ عددَ العاملينَ المهنيين يزيد عن عددِ الفنّيين.

 

وأنَّ عددَ العاملينَ المهنيينَ يزيدُ على عددِ الفَنيينِ، بَيْنما يقلُّ عن عددِ الحرفيينَ في ذاتِ الصناعةِ، ثَمَّة مُلاحظةٍ أُخرى حيثُ يَزدادُ تعقيدُ العَددِ والآلات وأساليبِ تَشغيلِها وصيانتِها كُلِّها.

اتَّجَهنا إلى المُستويات الأعلى، اللهُمَّ إلاّ بالنسبةِ لطبقةِ  المُهندسينَ الذين تميلُ دِراساتِهم إلى النواحي النظرية (الحِسابات والتصميم والتخطيط) بصورةٍ أكبرَ.

وعلى هذا الأساسِ فقدْ يُمارسُ بَعضُ الحِرفيين أنْشِطَتِهم رغمَ عدمِ إلمامِهم بالقِراءةِ والكتابةِ (أمثالُ سروجي السياراتِ وعُمّالِ الصباغةِ والسمكرة مَثَلاً).

 

أمّا المِهنيُّ فهو ذلك الفردُ متوسطُ التعليم والحاصلُ على التدريب الذي يؤهلُهُ إلى مُمارسةِ عَملِهِ الذي لا يَتَغيَّر طَوالِ حياتِهِ، فهو يعرفُ كيفَ يؤدي عَملَهُ.

أمّا الفنيّ فهو ذلكَ الفردُ الحاصلُ على تعليمٍ يُعادلُ مُستوى الثانويةِ العامّةِ (أو الصِّناعيّةِ) والمؤهّلُ لممارسةِ أنشطةِ تَخصُّصِهِ العَمليةِ ويُحْتَملُ أنْ يَتَطوَر تَخَصصُه في أثناءِ مُمارسة حَياتِه العَملية. والفنيُّ بذلكَ يَعرفُ كيفَ يؤدي عَمَلَهُ إلى جانبِ معرفةِ الأسبابِ التي يُؤدّيهِ من أجْلِها.

 

ويأتي مُستوى تأهيلِ التكنولوجي (التطبيقي) في مُستوى التعليم العالي لمدة سنتين أو ثلاثةٍ بعدَ مُستوى الثانويةِ العامةِ.

وهُنا تَجدُرُ الإشارةُ إيضاً إلى انخفاضِ أعدادِ الحِرفيين أخيراً في الصناعات الحديثةِ إلى حَدٍّ كبيرٍ بعدَ أن حَلِّتِ الآلةُ والآلية محلَّ العديدِ من الحِرفيّينَ، الأمرُ الذي يُؤدّي إلى نُموّ الحاجةِ المضطردةِ إلى الفنيين المُدرَّبين القادرينَ على تَشغيلِ وإدارةِ المُعدَّات الحديثة.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى