العلوم الإنسانية والإجتماعية

التعريف بمجتمع السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

تتمحور حياتنا اليومية بجزء كبير منها حول الأسواق. ويُعزى ذلك إلى كون الأسواق تتّخذ أهميّة مركزية في ما يتعلّق بتنظيم المجتمع المعاصر لإنتاج السلع والخدمات وتوزيعها. فعملُنا هو جزء من سوق العمل؛ ومأوانا نؤمنه من خلال سوق الإسكان؛ وغالباً ما نشتري الطعام واللباس ووسائل الترفيه من الأسواق. حتّى الأسواق التي تكاد لا تكون لنا بها معرفة مباشرة أو خبرة، يمكن أن يكون أثرها شديداً، وهذا ما بدا جلياً في العام 2007 عند انهيار سوق الرهون العقارية العالية المخاطر. فبرغم أنّ أشخاصاً كثيرين لم يكونو قد سمعوا يوماً بالأسواق والأدوات المالية المعقّدة المرتبطة بـ"الأزمة المالية العالمية"، كان أثرها هائلاً. كثيرون فقدوا وظائفهم ومنازلهم، وتوفّرت بيئة خصبة لظهور شائعات مفادها أنّ اقتصادات وطنيّة بأسرها قد تنهار بسبب الخلل الشديد في عمليّات السوق التي هي في قلب الاقتصاد.   

لا شكّ في أهميّة الأسواق بالنسبة إلى الاقتصاد، غير أنّها ليست سوى جزء ممّا هو في الواقع نظام مؤسساتي معقّد. فالحكومات أيضاً تضطلع بدور مركزي في الاقتصاد. وعلى الرغم من عقود "إعادة الهيكلة الاقتصادية" (Economic Restructuring) الهادفة في الظاهر إلى الحدّ من نشاط الدولة الاقتصادي، فلا تزال الحكومات تنشئ الأسواق وتنظّمها، حيث إنّها تقدّم الخدمات وتعيد توزيع الدخل وتشارك مباشرة في عملية الإنتاج. وثمّة مؤسسات أخرى ذات أهميّة إذ جزء كبير من النشاط التجاري ومعظم عمليّات الإنتاج لا تتمّ في الأسواق مباشرة بل داخل الشركات، لا سيّما الكبيرة منها، وفي ما بينها. وفي حين تعمل الشركات داخل الأسواق، فإنّ أحجامها وهياكلها تمنحها قوّة كبيرة للتأثير في كلّ من عمليّات الإنتاج الداخلية الخاصة بها وبيئة العمل الخارجية.  

ولكنّ الاقتصاد لا يقتصر على مؤسسات الأسواق والدول والشركات. فصناعة السلع وتوفير الخدمات لبيعها في الأسواق ليسا سوى جزء من الإنتاج الكلّي. عمليّة الإنتاج تتمّ أيضاً في المنازل وفي المجتمعات المحلية. أضف إلى ذلك أنّ نظام إنتاج السوق نفسه يستند إلى عمليات اجتماعية وبيولوجية وبيئية، ويتأثّر بها، وهذه الأخيرة تحاكي الشروط اللازمة لحصول الإنتاج. الأسر والمجتمعات تربّي العمّال الذين يتولّون الإنتاج، وتهيّئهم للاندماج في المجتمع وتدعمهم. كما أنّها مواقع استهلاك مهمّة. الموارد البيئية توفّر المواد الخام للإنتاج، بالإضافة إلى نظم الدعم التي تستوعب النفايات وتسمح بالحياة.

في السياق عينه، يشهد مجال العلوم الاجتماعية، بما في ذلك دراسة الاقتصاد، إدراكاً متنامياً بأنّ الاقتصاد ليس نظاماً منفصلاً مستقلاً عن القوى الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تؤثّر في حياتنا بل على العكس، يتمّ اعتبار الاقتصاد جزءاً من إطار أوسع وذا ارتباط وثيق بغيره من جوانب المجتمع، وذلك على نحو متزايد.

هذه العلاقة ثنائية الاتّجاه، فهي لا تقتصر على تأثّر نظام إنتاج السوق والاستهلاك بالقوى الاجتماعية والسياسية، بل إنّ تنظيم اقتصادنا يؤثّر بدوره إلى حدّ بعيد في حياتنا. إنّ مركزيّة الأسواق في الاقتصادات الحديثة غير مسبوقة تاريخياً. وقد أدّى ظهور نظام سوق متكامل، كان قد تطوّر على مدى قرون، إلى نموّ وازدهار كبيرين جداً. ولكن في المراحل الاولى في إنجلترا، كما في غيرها من البلدان، كان هذا النظام يتطلّب إعادة تنظيم كاملة للعلاقات الاجتماعية والسياسية. كان يندرج في إطار مجموعة من التطوّرات التي غيّرت أماكن سكن الناس وعملهم، وما يستهلكونه، ونظرتهم لأنفسهم، وعلاقاتهم بالآخرين. إنّ "اقتصاد السوق" (Market Economy)، بحسب تعبير كارل بولانيي (Karl Polanyi)، لا يوجد إلا في "مجتمع السوق" (Market Society) (1944, p. 71)

يسعى هذا الكتاب إلى فهم العلاقات المعقّدة بين المجتمع والاقتصاد، وينطلق من مجموعة من تقاليد نظرية تساهم على نحو متزايد في إيجاد أرضيات مشتركة، على ما نحاول أن نبرهن. إنّ هذا التماثل ليس توليفة مفاهيمية. بل ثمّة اختلافات نظرية بارزة من المستبعد أن تُحلّ. الواقع أنّ التماثل يظهر من خلال تغيّرات في عدد من المجالات، كالاهتمام المتنامي بدور المؤسسات، والعقلانية والشبكات الاجتماعية في الاقتصاد الكلاسيكي الجديد، والاهتمام المتجدّد بمواضيع مماثلة في علمَي الاجتماع والاقتصاد السياسي. ونحن نقترح بأنّ الانكباب على نحو أكثر واقعية على التطوّرات في العلوم الإنسانية سيؤدّي غالباً إلى مجموعة أفضل من الأدوات الفكرية لتحليل الظواهر الاقتصادية.  

التركيز في هذا الكتاب بشكلٍ خاص كان عن دور المؤسسات. وهذا لا يعكس صعود الاقتصاد المؤسساتي الجديد في إطار الاقتصاد الكلاسيكي الجديد فحسب، بل أيضاً الأهمية المتجدّدة للمؤسسات بالنسبة إلى الاقتصاد السياسي. إنّ الأمثلة على هذا التوجّه في الاقتصاد السياسي واضحة في نموّ المدرسة التنظيمية (Regulation School)، والاهتمام المتزايد بأعمال كارل بولانيي، وأهميّة الاقتصاد السياسي المؤسساتي في الدراسات السياسيّة. أمّا ما تشير إليه هذه الاتّجاهات المختلفة بشكل أساسي فهو أننا نولي أهميّة أكبر لكيفية بلوغ المؤسسات والممارسات الحالية ما هي عليه الآن. التاريخ مهمّ، ولا سبيل لفهم عمل النظم الاقتصادية والاجتماعية من دون فهم كيف تطوّرت. فالتاريخ يحدّد طريقة عمل هذه النظم في الوقت الحاضر وكيف ستتابع تطوّرها.

التركيز على المؤسسات يشير أيضاً إلى الحاجة للتمعّن في تفاصيل العمل الفعلي للنظم الاجتماعية الاقتصادية وذلك عبر تجاوز حدود الفهم المجرّد أو النظري للطريقة المثالية لعملها. إذ شكّل هذا أيضاً موضوع دراسة تحليلية أنجزت مؤخراً. إنّ تقليد "كلفة التعاملات" (Transaction Cost) في الاقتصاد الكلاسيكي الجديد، إلى جانب الاقتصاد السلوكي والاقتصاد التجريبي، بدأ يولي اهتماماً أكبر للسلوك الفعلي للأسواق والشركات والأفراد الحقيقيين. على غرار ذلك، نلاحظ تركيزاً على فهم عمل الشبكات والمؤسسات في علم الاجتماع الاقتصادي. أمّا في الاقتصاد السياسي فنجد اهتماماً متجدداً باكتشاف معلومات عن عمل أسواق معيّنة بأساليب تسلّم بالتنوّع بين الاقتصادات الرأسمالية من حيث الحجم والطابع. وقد ألهمت هذه المواضيع النهج المتعدّد الأبعاد المعتمد في هذا الكتاب.

باستعراض شؤون التاريخ والنظريات والتطبيق بالنسبة إلى المؤسسات الاقتصادية، نركّز على الجوانب الاقتصادية للحياة اليومية. ونحن نوافق بولانيي في رأيه القائل بأنّ مجتمعنا الحالي هو قبل كلّ شيء "مجتمع سوق" – بات فيه المجتمع ملحقاً بعمل الأسواق. وعلى غرار ذلك، نستند إلى مفاهيم تحليل كارل ماركس    (karl Marx) للرأسمالية على أنّها نظام إنتاج وتوزيع اقتصادي يتكوّن من علاقات اجتماعية معيّنة. والواقع أننا طوال الكتاب نستخدم مصطلحي "مجتمع السوق" و"الرأسمالية"  (Capitalism)من دون التفريق بينهما إلى حدّ ما، بما أننا نعتبر بأنّ هاتين التسميتين تشيران إلى تفسيرين نظريين لظواهر متماثلة.

وانسجاماً مع النهج التعدّدي المتّبع في معالجة موضوع الكتاب، يشير كلّ من مجتمع السوق والرأسمالية إلى تصوّرين عن نوع المجتمع الذي نعيش فيه اليوم؛ مجتمع تضطلع فيه الأسواق بدور رئيسي ليس فقط في ما يتعلّق بالإنتاج الاقتصادي، بل أيضاً بتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بأساليب فريدة تاريخياً. وفي هذا الإطار نقوم على مدى صفحات الكتاب بربط المناهج النظرية المختلفة المتناولة بالأحداث التاريخية التي ألهمت واضعي النظريات وساهمت في قولبة التطوّرات والممارسات التي نعاينها. كما لا بدّ من إدراج سياق تاريخي أوسع، لا سيّما عند البحث في الأمور التي نعتبرها من مُميّزات مجتمع السوق. سننتقل إلى ذلك الآن، ثمّ سنعرض بإيجاز بعض المناهج النظرية الرئيسية الواردة في الكتاب، وسنعطي أخيراً لمحة عن أقسامه ومحتواه.    

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى