الحيوانات والطيور والحشرات

السُلوك الحياتي التي تتبعه الحَيَوانات المختلفة

2000 موسوعة الكويت العلمية للأطفال الجزء الحادي عشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

سلوك الحيوانات الحيوانات والطيور والحشرات البيولوجيا وعلوم الحياة

لوْ راقَبْتَ عُصْفورًا مِنْ بُعْدٍ، لوجدتَهُ ينقُرُ في الأرضِ بحثًا عن الحبوبِ والديدانِ، ويتلَفَّتُ بينَ الحينِ والحينِ يمينًا ويسارًا في حَذَرٍ.

ويطيرُ قليلاً لينضمَّ إلى عصافيرَ أخَرَ من نوعِهِ، ثم يندفعُ طائرًا إلى بعيدٍ إذا صاحَ صقرٌ مفترسٌ؛ فإذا ما بلغ عُشَّهُ الآمِنَ صدحَ بالغناءِ. وهذه كلُّها أشياء مألوفةٌ في «سلوكِ» العصافيرِ.

ولعلك لاحظتَ أنَ سلوكَ العُصفورِ يُمَكِّنُه من البحثِ عن الغذاءِ، والهربِ من الأعداءِ، والاقترابِ من الأصدقاء، وإعلانِه حمايتَه لعُشِّه والمِنطقةِ المحيطةِ به عندما يرفعُ صوتهُ مغرِّدًا. فالسلوك إذنْ يعينُ العُصفورَ على البقاءِ والنجاحِ في الحياةِ.

 

ولأنواعِ الحيواناتِ المختَلِفَةِ أساليبُ متنوِّعَةٌ من السلوكِ؛ وهي تتَّفقُ في أشياءَ عامَّةٍ، وتختلفُ في أشياءَ خاصَّةٍ.

ويحتاجُ العالِمُ الذي يدرسُ سلوكَ الحيوانِ إلى كثيرٍ من الصبْرِ والمثابرةِ والذَّكاءِ. وكذلكَ هوَ يستعينُ بأدواتٍ كثيرةٍ، مثل أجهزة التصويرِ السريعِ والبطيءِ، والتصويرِ في الظلامِ، وأجهزةِ الفديو وتسجيلِ الأصواتِ، والمناظيرِ المقرِّبة، وغيرِها من الأجهزةِ المعقَّدَة.

يتفنَّنُ عالمِ السلوكِ أيضًا في إجراءِ التجاربِ الشائِقَةِ، ويُضْطَرُّ إلى الإقامةِ في الخيامِ وسطَ الغاباتِ، أو التعَلُّقِ بأغصانِ الأشجارِ، أو تسَلُّقِ الجبالِ، أو الدخولِ إلى أعماقِ المغاراتِ والكُهوفِ، أو الغوصِ إلى قعورِ البحارِ.

 

وعالِمُ السلوكِ يجدُ في هذا كلِّه مُتْعَةً كبيرةً، ويَتَوَصَّلُ منهُ إلى حقائِقَ علميةٍ مُهِمَّةٍ.

فنحن نتعَلَّم من مَعْرِفَتِنا بسلوكِ الحيوانِ كيف نَسوسُ حيواناتِ المزرعَةِ، وكيفَ نربِّي حيواناتِنَا المنزليَّةَ، وكيفَ نُكافحُ الحشراتِ الضارَّةَ، وكيف نتجنَّبُ الحيواناتِ المفترِسةَ أو السامَّةَ. بل إنّ دراسةَ سلوك الحيوانِ تعينُنا على فهمِ أنفُسِنا بعمل الموازَناتِ الصحيحةِ.

وعالِمُ السلوكِ يجدُ في هذا كلِّه مُتْعَةً كبيرةً، ويَتَوَصَّلُ منهُ إلى حقائِقَ علميةٍ مُهِمَّةٍ.

 

فنحن نتعَلَّم من مَعْرِفَتِنا بسلوكِ الحيوانِ كيف نَسوسُ حيواناتِ المزرعَةِ، وكيفَ نربِّي حيواناتِنَا المنزليَّةَ، وكيفَ نُكافحُ الحشراتِ الضارَّةَ، وكيف نتجنَّبُ الحيواناتِ المفترِسةَ أو السامَّةَ. بل إنّ دراسةَ سلوك الحيوانِ تعينُنا على فهمِ أنفُسِنا بعمل الموازَناتِ الصحيحةِ.

وقد توصَّلَ علماءُ السلوكِ إلى تحديدِ طُرُزٍ – أو نماذجَ – عامَّةٍ لسلوكِ الحيوانِ.

ومن أوضحِ هذهِ الطّرزِ أن الصِّغارَ تطلب الرِّعايةَ من أبَوَيْها، ففرْخُ الطائِرِ الذي يصيحُ ويفتحُ فمَهُ واسعًا، يُعلن أنّه جائِعٌ ويرجو أبَوَيْهِ أنْ يطْعِماه.

 

وكذلك الآباءُ تستجيبُ لهذه المطالِبِ، فالأُمُّ تسارعُ إلى إرضاعِ وليدِها الذي يبكي من الجوعِ.

وإذا جاعَتْ الحيواناتُ الكِبارُ، سَعَتْ للبحثِ عن غذائِها أو اصْطيادِهِ؛ ولكلِّ نوعٍ من الحيوانِ أسلوبُهُ الخَاصُّ في ذلكَ، الّذي قد يكونُ غايةً في الغرابَةِ والبراعَةِ، كما يَتَّضحُ لكَ عند قراءَةِ المداخِلِ الكثيرةِ الخاصَّةِ بالحيوانِ في هذه الموسوعةِ.

والحيواناتُ مفطورَةٌ على فَحْصِ البيئةِ التي حولَها واسْتِكْشافِها مستعينةً في ذلكَ بالتحرُّكِ في نَواحيها، وبحواسِّ البَصَرِ والسَّمْعِ والذَّوقِ والشَّمِّ واللَّمسِ التي خُلِقَتْ فيها

 

ولبعضِ الحيواناتِ قُدْراتٌ خاصَّةٌ: فـالخَفَّاشُ، مثلاً، يسمَعُ ما لا نستطيعُ سماعَهُ، والكلبُ يشُمُّ ما لا نحسُّ بوجودِه على الإطلاقِ، والسّمكُ يُحسُّ بكلِّ ذَبْذَبَةٍ ومَوْجَةٍ تحدثُ في الماءِ. 

والثُّعْبانُ يتعرَّفُ ما حولَه بتذوُّقِه بلسانِه المشقوقِ، وأفرادُ خليَّةِ النحل يتعرَّف بعضُها بعضًا بشمِّ رائِحَةٍ خاصَّةٍ تميِّزُها وتَكْتَسِبُها من أُمِّها المِلِكَةِ.

وعندما تكبُرُ الحيواناتُ وتنضُجُ، تسعَى للتزاوُجِ وإنجاب الأبناءِ حِرْصًا منها على استمرارِ بقاءِ أنواعِها.

وفي كثيرٍ من أنواعِ الحيوانِ تكونُ الذكورُ أكبرَ حجمًا أو أشدَّ قُوَّةً، أو أَبْهَى ألوانًا، أو أعذبَ أصواتًا، من الإناثِ.

 

وتستعرِضُ الذكورُ هذه المزايا أمامَ الإناثِ، لتُقْنِعَها بأنَّها جديرةٌ بحبِّها وبأنْ تكونَ آباءً لأبنائِها؛ وهذا ما يُعْرَفُ بالغَزَلِ.

ومن الأمثِلَةِ المشْهورَةِ اجتماعُ أفرادِ نوعٍ من طيورِ الحَجَلِ في اللَّيالي القَمَرِيَّةِ، وإقامَتُها حَلَقاتِ رقصٍ تُظهرُ فيها الذكورُ جمالَها وبراعتَها.

ومنها أيضًا نَشْرُ ذكرِ الطَّاووس أو الدّيكِ الرُّوميِّ ذيلَه البديعَ أمامَ عروسِه. ومن سلوكِ التزاوُجِ، نماذِجُ متعدِّدَة من بناءِ العُشوشِ ورعايةِ الأبناءِ.

ومن الأَمْثِلَةِ المُعَبِّرَةِ سلوكُ الغزلِ عندَ السمكَةِ شائِكَةِ الظَّهْرِ، وفيهِ خُطُواتٌ مُرَتَّبَةٌ يمكنُكَ متابعتُها على الرسمِ المرافِقِ.

 

والأساسُ في معظمِ هذهِ النماذجِ من سلوكِ الحيوانِ موروثٌ، ونَصِفُه بأنَّه فِطرِيٌّ أو غريزيٌّ. ولذلك فخُطواتُه ثابِتَةٌ، وكلُّ خُطْوةٍ فيه تُعْتَبَرُ إشارَةَ بَدْءٍ للخُطوةِ التي بعدَها.

ففي أنواعٍ من الإوَزِّ، تكونُ الأُنثَى مفطورةً علَى أنَّها إذا رَأَتْ بيضةً من البيضِ الذي تَحْضُنُهُ تَدَحْرَجَتْ بعيدًا عنها، مدَّتْ عُنُقَها وهي راقِدَةٌ على البيضِ حتى تصلَ إلى تلك البيضةِ، ثم تضبط توجيهَهَا بمِنقارِها، ثم تعيدُها شيئًا فشيئًا إلى بقيةِ البيضِ تحتَها.

وهي تفعل ذلكَ حتى إذا وضَعْنا أمامَها بيضةً ليستْ من بيضِها، أو بيضةً مُصْطَنعةً. وإذا سَحبْنا البيضةَ في أثناءِ تلك الحركاتِ استمرَّتْ الإوزَّةُ في أداءِ بقيَّةِ الحركاتِ حتَّى تتوَهَّمَ أنّها أعادَتْ البيضةَ (غيرَ الموجودةِ) إلى حضنتِها!

 

وبعضُ أنواعِ العنكبوتِ تَنْسِجُ بيوتًا في غايةِ التعقيدِ، في خُطُواتٍ مُتَتَابِعَةٍ تُعَدُّ بالمئاتِ. ولكنْ إذا نَضَبَتْ المادَّةُ التي تصنع منها العنكبوتُ خَيطَها استَمَرَّتْ في حركاتِ بناءِ الشَّبَكَةِ دونَ أن يكونَ هناك خيطٌ على الإطلاقِ.

وإذا نَقَلْنا العنكبوتَ، في أثناءِ بنائِها بَيْتَها، إلى مكانٍ آخَرَ، لم تبدأْ من جديدٍ (كما يجبُ عليها أن تفعَلَ)، بل استمرَّتْ في أداءِ حركاتِ بناءِ البيتِ من حيثُ توقَّفَتْ قبل نقلِها!

ولكنَّ بعضَ نماذجَ من سلوكِ الحيوانِ الموروثَةِ، يتمكَّنُ الحيوانُ من تعديلِهِ، بما يكتسبُه من خبرةٍ وبما يَتَّفِقُ من تغيُّرٍ في الظروفِ، كما أنَّ بعضًا آخرَ منها يكتسبُه بالتَّعَلُّم.

 

والحيواناتُ الدُّنيا البسيطةُ تتعَلَّم بالتجربةِ والخطأِ، والاستمرارِ في التجرِبةِ، حتَّى تَصِلَ إلى الفِعْلِ الصحيحِ والحيواناتُ الأرقَى قد تبدأُ تعَلُّمَها بمجرَّدِ ولادَتِها أو خروجِها من بَيْضِها.

فأفراخُ الإوَزَّةِ تتعَلَّمُ أن تَتْبَعَ أوَّل جسمٍ متحرِّكٍ تلاحظُهُ في الساعاتِ الأولَى بعدَ فقسِها بيضَها. وعادةً ما يكونُ هذا الجسمُ المتحرِّكُ هو الأمَّ. ولذلك من المألوفِ أن نرى أفراخَ الإوزةِ تمشي صفًّا وراءَ أمِّها، أَيْنَما ذهبَتْ.

وقد أَجْرَى عالِمُ السلوكِ النِّمْسَوِيُّ كونْراد لورِنْتْزُ (1903 – 1989) تجرِبَةً شائِقَةً لدراسَةِ هذا السلوكِ.

 

فقدْ أخذ عددًا من بيضِ الإوَزِّ، ووضعَه في مِحْضَنٍ كهرَبائيٍّ حتَّى فُقِسَ. ولم يحملْ لورِنْتْز الأفْراخَ إلى إوَزَّةٍ بالِغَةٍ، وإنما وضَعَها على الأَرْضِ، ثم مشِيَ أمامَها فإذا هي تتبعُهُ، وتَعَوَّدَتْ أن تتبعَهُ دائمًا، حتَّى إنْ هي رأَتْ إوَزَّةً بالِغَةً بالقربِ منها !

وهذا «التعلُّم» المبكِّرُ يسمَّى «النَّقْشَ»، ليذكِّرَنا بالحكمةِ العربيةِ: «التعليمُ في الصِّغَرِ كالنَّقْشِ على الحَجرِ»، أي إنه ثابتٌ لا يزولُ.

والطيورُ تتعلَّمُ الألحانَ المميِّزَة لنوعِها، بسماعِها تلك الألحانَ وهي أفراخٌ في عُشِّها، فتنطبعُ في ذاكِرَتِها («نَقْش»)، ولن تتأثَّرَ بعد ذلك بغِناءِ الأنواعِ الأَخرَى. ولكن الذكورَ لن تستطيعَ في الواقعِ التغريدَ إلاَّ عندَ نضجِها. وعندئذٍ سوفَ تتمرَّنُ على التغريدِ حتَّى تُتْقِنَ أنغامَ آبائِها.

 

ولو أُصيبَ الطائرُ بالصمَمِ، لم يُحْسِنْ أداءَ أغاريدِ نوعِهِ؛ وذلك لأنَّه لن يستطيعَ الاستماعَ إلى أصواتِهِ حتَّى يُعَدِّلَها إلى أنْ يضبطَها، بحسَبِ ما نُقِشَ في ذاكرتِه.

وبعضُ ذكورِ الطيورِ لن يستطيعَ إتقانَ التغريدِ، إلاّ إذا عاشَتْ وهي بالِغَةٌ بينَ أبناءِ نوعِها. وهذا التقليدُ (في الغناءِ، وبعضِ نماذجِ السلوكِ الأخرَى)، هو نوعٌ من التَّعَلُّم.

وبعضُ صُوَرِ التعلُّمِ (كالنَّقشِ) يجبُ أن يحدثَ في وقتٍ معيَّنٍ، وإلاَّ أصبحتْ غيرَ ممكِنَةٍ. فالسِّخالُ (صِغارُ الماعِزِ) تتعرَّفُ أمَّها عند ولادَتِها، ولكنَّ الأمَّ أيضًا يجبُ أن تتعرَّفَ وليدَها بعد ولادتِه بدقائِقَ، فهي تأخذُ في شمِّهِ ولَعْقِهِ بلسانِها، حتَّى يَثْبُتَ في ذاكرَتِها، فتميِّزَه عن غيْرِهِ من صغارِ العَنْزاتِ الأُخْريَاتِ.

 

ولَوْ رَفَعْنا الوليدَ بعدَ ولادتِهِ قبلَ أنْ تتفحَّصَهُ أُمُّه، ثم أَعَدْنَاهُ بعد ساعاتٍ إليها، لم تعرفْهُ ! وفي بعضِ الأنواعِ، يتزاوَجُ عددٌ كبيرٌ من الأفرادِ في نطاقٍ ضيِّقٍ، ومع ذلكَ يستطيعُ كلُّ أبَوَيْن أن يتعرَّفا صغارَهما في هذا الزحامِ.

وبعضُ أنواعِ الزَّنابيرِ له أسلوبٌ عجيبٌ في الحياةِ. فالأُنْثَى تبحثُ عن نحلةٍ أو يَرَقَةٍ، فتحقِنُها بحُمَتِها في موضعٍ معيَّنٍ من جهازِها العصبيِّ، كي تُخَدِّرَها ولا تقتلَها، ثم تَنْقُلُها إلى عُشٍّ تحفرُه في الأرضِ، ثم تضعُ الزِّنبارُ بيضَها في جسمِ ضَحِيَّتِها، ثم تدفِنُها في العشِّ وتغطِّيه لتُخْفِيَهُ عن الأنظارِ.

فإذا فُقِسَ البيضُ، خرجَتْ يرقاتُ الزِّنبارِ فوجدَتْ طعامَها جاهزًا محيطًا بها. ولكن الأمَّ تعودُ من حينٍ إلى حينٍ إلى العُشِّ، فكيفَ تتعرَّفُ موضِعَه؟

 

أجرَى عالِمُ السّلوكِ الهولَنْدِيُّ نيكولاس تِنْبِرْجنْ (1907 – 1988) تجربةً شائِقَةً نُلَخِّصُها فيما يلي: أحاطَ تِنْبِرْجِنْ العُشَّ بدائِرَةٍ من مَخاريطِ الصَّنَوْبرِ.

فلمّا خَرَجَتْ الزِّنبارُ أَخَذَتْ تَتَفَحَّصُ المكانَ قبل أن تطيرَ لتتعَرَّفَ معالِمَهُ، ثم كانَتْ تهتدي إليه في كلِّ مرَّةٍ تعودُ إليه.

وانتهز تِنْبِرْجِنْ فُرْصَةَ غيابِ الزِّنبارِ مرَّةً، فأعادَ ترتيبَ المخاريطِ حولَ العُشِّ في شكلِ مُثَلَّثٍ، ثم رصَّ في الوقتِ نفسِه عددًا من الأحجارِ في دائرةٍ حولَ مكانٍ قريب شبيهٍ بمكانِ العُشِّ.

 

فلمَّا عادَتْ الزِّنبارُ، توَجَّهَتْ إلى دائِرَةِ الأحجارِ – التي لا تضمُّ عُشَّها، وتجاهلَتْ مثَلَّثَ المخاريطِ الذي يضمُّ عُشَّها.

وبذلك عرفَ تِنْبِرْجِنْ أنَّ الزِّنبارَ اعتمدَتْ على الهَيْئَةِ العامَّةِ للمَعالِم المحيطَةِ بالعُشِّ، وليس بتحديدِ شكلِ الأجزاءِ المكوِّنَةِ لتلك الهيئةِ (مخاريطَ أو أحجارٍ).

ونلاحظُ هنا أن سلوكَ تعرُّفِ الزِّنبارِ عُشَّها سلوكٌ مُتَعَلَّمٌ، أمَّا السلوكُ الصَّعبُ المُعَقَّدُ من صيدِ الضحيَةِ وحَقْنِها وحملِها ووضعِ البيضِ فيها ودَفْنِها، فسُلوكٌ موروثٌ، تفعَلُه إناثُ تلك الزَّنابيرِ جيلاً بعد جيلٍ، دونَ أن تَتَعَلَّمَهُ.

 

والسلوكُ في حقيقةِ أمرِه استجابَةٌ لمؤثِّرٍ ما يُحِسُّ به الحيوانُ. وقد يكونُ هذا المؤثِّرُ داخليًّا كالشُّعورِ بالجوعِ أو العطشِ، أو خارجيًّا من عناصِرِ البيئةِ الحيَّةِ وغيرِ الحيَّةِ حولَ الحيوانِ.

وفي كثيرٍ من الأحيانِ تكونُ الاستجابةُ للمُؤَثِّراتِ غريزيَّةً موروثَةً. ففرخُ الطائر في العشِّ، عندما يتركُهُ أَبَواه، إذا أحسَّ بأيِّ شيءٍ طائرٍ فوقَه – كفراشةٍ، أو عُصفورٍ، أو حتَّى ورقة شجرٍ – خافَ وقَبَعَ ساكنًا لا يتحرَّكُ. وفي هذا حمايَةٌ له، لأنه لن يَلْفِتَ إليه أنظارَ عدوٍّ مُحْتَمَلٍ.

ولكنَّ هذا السلوكَ الموروثَ سَرعان ما يُعَدَّلُ بالتَّعَلُّم والتجرِبَةِ. فبالتدريجِ، سوفَ يعتادُ الفرخُ ظهورَ الأشياءِ المألوفةِ التي لا تُؤْذي، فلا يهتمُّ بها.

 

أمَّا إذا اقتربَ صَقْرٌ، مثلاً، مارسَ الفرخُ سلوكَه الغريزيَّ فانكمشَ وقَبَعَ ساكنًا في مكانِهِ.

وكذلك نحنُ، إذا رَكِبْنا القطارَ أزْعَجَتْنا ضوضاؤُهُ فلا نستطيعُ أن نرتاحَ وننامَ في سفرٍ طويلٍ. ولكنْ بعدَ مدَّةٍ، نعتادُ تلكَ الأصواتَ وننامُ في هدوء، بل ربّما اسْتَيْقَظْنا إذا توقَّفَ القطارُ وانقطعتْ ضوضاؤُهُ !

وقد يتعلَّمُ الحيوانُ الربطَ بين مُؤَثِّريْن متلازمَيْن فيستجيبُ لهما استجابةً مُشْتَرَكَةً. ويظهرُ هذا في التجاربِ التي أجراها عالِمُ الفيزيولوجْيا (أي: وظائفِ الأعضاءِ) الروسيُّ إيفان بافلوف (1849 – 1936).

 

فكان بافلوفُ كلَّما قدَّم لكلبٍ جائعٍ قطعةً من اللحمِ سالَ لعابُ الكلبِ – وهذا فِعلٌ انعكاسيٌّ عاديٌّ.

ثم أخذَ بافلوفُ يَدُقُّ جرسًا صغيرًا كلَّما قدَّم للكلبِ قطعةَ لحمٍ، فيسيلُ لعابُ الكلبِ؛ وداوَم على ذلكَ مرَّاتٍ عديدةٍ.

وبعدَ فترةٍ، لاحظَ بافلوفُ أنه إذا دقَّ الجرسَ، دونَ أن يقدِّمَ قطعةَ اللحمِ، سالَ لعابُ الكلبِ أيضًا. وذلك لأنَّ رنينَ الجرسِ قد ارتبطَ في ذاكرةِ الكلبِ بوجودِ اللَّحْمِ.

 

وسمَّى بافلوفُ هذا الارتباطَ «فعلاً انْعِكاسيًّا مَشْروطًا». وقد نال بافلوفُ جائزة نوبل عن بحوثِهِ في فيزيولوجيا هضمِ الطعامِ عام 1904.

وتُستغلُّ ظاهرةُ الأفعالِ الانعكاسيَّةِ المشروطةِ كثيرًا. فمدرِّبو الحيواناتِ في السِّرْكِ، مثلاً، يكافِئونَ الحيوانَ كلَّما أتقنَ لُعْبَةً مَا شيئًا من الطعامِ أو قطعةً من الحلوَى.

وهذا ما نلاحظُه في العروضِ التي نشاهِدُها في التِّلْفازِ، حين يدُسُّ المدَرِّبُ قطعةً من السّكَّرِ في فمِ الحِصانِ، أو قطعةَ لحمٍ من فمِ البَبْرِ، أو سمكةً في فمِ سَبْعِ البحرِ. 

 

كلَّما أتَى واحدٌ من هذه الحيواناتِ والطيورَ أيضًا على أنْ تضغطَ زرًّا كهرَبائِيًّا معيَّنا، أو تدفَعَ بابًا صغيرًا، كيْ تحصلَ على طعامِها.

وهذا هو أساسُ أسلوبِ التعليمِ بالثَّوابِ والمكافأةِ (أو العقابِ، عندما نُعَرِّضُ الحيوانَ لصدمةٍ كهربائيةٍ خفيفةٍ، مثلاً، إذا أخطأَ).

وتبلغُ عمليةُ التعلُّم درجةً أعلَى عندما يستطيعُ الحيوانُ أن يدركَ أبعادَ المشِكَلَةِ التي أمامَهُ أنْ يشرعَ في حلِّها، دونَ أن يلجأ إلى محاولاتِ التجربةِ والخطأ المتكرِّرَةِ.

 

فقرد الشِّمبانزي، مثلاً، إذا علَّقْتَ فوق رأسِهِ بضعَ ثَمَراتٍ من المَوْزِ، مدَّ ذراعَهُ وأدرَك أنها بعيدَةٌ عن متناوَلِه. فإذا كانَ حولَهُ عددٌ من الصناديقِ الفارِغَةِ، وضعَ بعضَها فوقَ بعضٍ، بالارتفاعِ المناسِبِ، واعتلاها حتَّى يصِلَ إلى أصابعِ الموزِ المُشتهَاةِ.

وكذلك فعلَ شمبانزي آخرُ، عندما وضعوا له الموزَ بعيدًا خارجَ قفصٍ هو حبيسٌ بداخلِهِ. فلمَّا تلفَّتَ حولَه وجَدَ أعوادًا يمكنُ إدخالُ بعضِها في بعضٍ، حتَّى تبلغَ الطولَ الذي يبلغُ أصابِعَ الموزِ فَسَحَبَها بها.

ولكننا إذا وضعنا كلبًا في مأْزِقٍ، كالمبيَّنِ في الرسمِ، وكان علَى الكلبِ أن «يبتعدَ» أولاً عن الطعام، ليدورَ حولَ العمودِ الذي يعوقُ حركتَه، لم يدركْ الكلبُ هذا المَوْقِفَ.

وأخَذَ المسكينُ يأتي بحركاتٍ عشوائيةً ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، حتَّى يتخلَّص من العائِقِ مصادفَةً، ثم ينطلِقُ إلى الطعامِ. ومعظمُ تَصَرُّفاتِ البشرِ هي طُرُزٌ راقِيَةٌ من قبيلِ ما فَعَلَه الشِّمبانزي، لا الكلبُ.

 

فالإنسانُ يدركُ أبعادَ المسألةِ التي أمامَهُ، أو «يَتَبَصَّرُها»، ثم يفكِّر في طريقةِ حلِّها.

فإذا هداهُ تفكيرُه إلى الحلِّ الصحيحِ، انطلقَ إلى تنفيذِه دونَ مُحاوَلاتٍ عَشْوائيَّةٍ سابِقَةٍ. (ولو أنَّ الإنسانَ قد يلجأُ إلى أسلوبِ المحاوَلَةِ والخطأِ أحيانًا، إذا كانَ غيرَ مُدْرِكٍ تمامًا أبعادَ المشكِلةِ التي يريدُ حلَّها).

وأحوالُ البيئةِ غيرِ الحيَّةِ لها آثارُها الواضِحَةُ والمهمَّةُ في حياةِ الحيوانِ وسلوكِهِ. فيستجيبُ الحيوانُ للتغيُّراتِ الحادِثَةِ في بيئتِهِ، كعناصِرِ المُناخِ من ضوءٍ وحرارَةٍ ورطوبَةٍ، بأساليبَ تمكِّنُهُ من البقاءِ في أَنْسَبِ الظروفِ لحياتِهِ.

 

ويكيِّفُ الإنسانُ نشاطَهُ وَفْقًا للتغيُّرَاتِ المنتظِمَةِ في بيئتِهِ: كتعاقُب اللّيلِ والنَّهارِ، ودوراتِ القمَرِ الشَّهريَّةِ، ونوباتِ المدِّ والجزْرِ في شواطئِ البحارِ. 

وتَتَابُعِ المواسِمِ والفُصولِ. والأمثلةُ كثيرةٌ: فمعَ أنّ معظمَ أنواعِ الحيوانِ يمارسُ نشاطَهُ نهارًا، هناك عددٌ كبيرٌ منها ليليُّ النَّشاطِ، كالخَفافيشِ والبومِ وكثيرٍ من الحشراتِ والعَقارِبِ والثعابين.

 وتقومُ بعضُ أنواعِ الحيوانِ برحلاتِ هِجْرَةٍ هائِلَةٍ، إما لإتمامِ دوراتِ حياتِها أو استجابةً للتغيُّراتِ المَوْسِمِيَّةِ في الطَّقْس ووَفْرَةِ الغذاءِ

 

وواضِحٌ أنَّه توجدُ في أجسامِ الحيواناتِ أنْظِمَةٌ مُعَيَّنَةٌ تنظِّمُ لها صورَ السلوكِ الدَّوريَّةَ (أي: التي تحدثُ في دوراتٍ منتظِمةٍ).

ونحن نعبِّرُ عن هذا بقولِنا إنَّ في أجسامِ الحيواناتِ «ساعاتٍ بيولوجيَّةً»، هي التي تُنْبِئُها بالوقتِ المناسِبِ لكيْ تقومَ بسلوكٍ معيَّنٍ. بل إنّ هذه الساعاتِ البيولوجيَّةَ تجعَلُها تستعدُّ للظروفِ البيئيةِ قبلَ وُقوعِها.

وقد لا نعرفُ مَوْضِعَ هذه «الساعاتِ» في الأجسامِ أحيانًا، ولكنها مرتبِطَةٌ – على كلِّ حالٍ – بالجهاز العصبيِّ وإفرازِ الهُرْموناتِ. وتنظيمُ ساعاتِ نومِنا ويَقَظَتِنا يحكمُه أيضًا ساعَةٌ بيولوجيَّةٌ.

 

وتختلُّ هذه الساعةُ اختلالاً مُؤَقَّتًا حين نسافِرُ بالطَّائِرَةِ، مثلاً، من بلادِنا العرَبِيَّةِ إلى الولاياتِ المتَّحدَةِ الأمريكيَّةِ في أقصَى الغربِ، دفعةً واحِدَةً.

ونُعاني نحن هذا الخَلَلَ، حتَّى تضبطَ ساعتُنا البيولوجيَّةُ نفسَها على مواعيدِ شروقِ الشمسِ وغروبِها في المكانِ الجديدِ.

وبعضُ أنواعِ الحيواناتِ يحيا في جماعاتٍ منتظِمَةٍ غيرِ قليلَةِ العدَدِ، فتوصفُ بأنّها «حيواناتٌ اجتماعِيَّةٌ».

 

وتكوينُ الأُسَرِ الصغيرةِ، كالطائرِ الذَّكَرِ وأُنثاهْ وأفراخِهما في العُشِّ لا يُعَدُّ حياةً اجتماعيَّةً بهذا المعنَى. وتَجَمُّعُ الفراشِ حولَ مصباحِ مضيءٍ لا يكوِّنُ «مجتمعًا» منظَّمًا، وكذلك أسرابُ الطيورِ أو الأسماكِ المؤقَّتَةُ.

ولكنَّ النَّحْلَ والنَّمْلَ وأنواعًا من القِرَدَةِ والقِرَدَةِ العُلْيا تكوِّن مُجتمعاتٍ منظَّمَةً. وهذه الحيواناتُ لها طبعًا طُرُزٌ خَاصَّةٌ من السُّلوكِ تنظِّمُ العَلاقاتِ بين أفرادِ الجماعَةِ، وخصوصًا فيما يتعلَّق بقواعِدِ سيادَةِ بعضِ الأفرادِ وقيادَتِهِمْ سائرَ أعضاءِ الجماعَةِ وَفْقًا لسلوكٍ خاصٍّ

والحياةُ الاجتماعِيَّةُ المنظَّمَةُ تتيحُ الفرصةَ لتقسيم العملِ بين أفرادِ الجماعَةِ. وهذا يجعلُ الجماعةَ أقدرَ على الإنتاجِ (كميَّاتٍ كبيرةً من العَسَل، مثلاً)، وتربيةِ عددٍ كبيرٍ من الصِّغارِ. والجماعةُ الكبيرةُ أقدرُ أيضًا على الهجومِ والدِّفاعِ

 

والحياةُ الاجتماعِيَّةُ تتطلَّبُ وجودَ أسلوبٍ للتواصُلِ بين أفرادِ الجماعَةِ، فإنَّ هذا يساعِدُ على تنظيمِها، وعلى إيجادِ ما يميِّزها عمَّا سِواها من الجماعاتِ. ألا تَرَى أنَّ اللّغَةَ من أهمِّ ما يميِّزُ أُمَّةً من البشَرِ عمَّا سِواها، ويُقارِبُ بين أفرادِها، ويساعدُهُم على تَعَرُّفِ بعضِهم بعضًا واكتشافِ الدخيلِ بينهم؟

والتَّواصُل بين أفرادِ جماعاتِ الحيوانِ كثيرًا ما يكونُ بإشاراتٍ وحركاتٍ جسديَّةٍ خاصَّةٍ، كهزِّ الذَّيْل أو انتفاشِ الرِّيش أو التَّكْشيرِ عن الأنيابِ، أو لمسِ أجزاء معيَّنَةٍ من أجسامِ المتواصِلين. وقد يكونُ التواصُلُ بإشاراتٍ ضوئيةٍ يُصدرها الحيوانُ، كما في الحُباحِبِ (ذباب النَّارِ )

وقد يكونُ التَّواصُلُ أيضًا بإفرازِ موادَّ كيميائيةٍ، معيَّنَة، تُسَمَّى «الفِيروموناتِ»، لها دلالاتٌ خاصَّةٌ يدرِكُها أفرادُ الجماعةِ. ويمكِنُنا أن نستغِلَّ هذه الفيرومونات في المكافحةِ البيولوجيَّةِ للحشراتِ.

 

ولكن لعلَّ أوَّلَ ما يتبادرُ إلى أذهانِنا من سُبُل التَّواصُلِ هو إصدارُ الأصواتِ. ولكنَّ العجيبَ أن هذا ليسَ هو الأسلوبَ الأكثرَ شيوعًا في عالَمِ الحيوان.

ونحن نعرفُ من أصواتِ الحيوانِ أنواعًا كثيرةً: كصَهيلِ الخَيْلِ، ونَهيقِ الحَمير، ومُوَاءِ القطِّ، ونُباحِ الكلْبِ، وعُواءِ الذِّئبِ، وزئيرِ الأَسَدِ، وثُغَاءِ الغَنَمِ، وخُوَارِ البقرِ. وتَتَنَوَّعُ هذه الأصواتُ لتكونَ لها دلالاتٌ خاصَّةٌ عند أفرادِ نوعِها.

ولكن لا شكَّ أنّ الطيورَ هي أكثرُ أنواعِ الحيوانِ قدرةً على إصدارِ الأصواتِ، وتنغيمِها، وتنويعِها. وقد ذكرنا أنّ تغاريدَ الطيورِ أساسُها موروثٌ، وجزءٌ منها مُتَعَلَّمٌ.

 

وقد اعتنَى العلماءِ بدراسةِ أغاريدِ الطيورِ بوجه خاصٍّ، وتعرَّفوا كثيرًا من مدلولاتِها: فقد تكونُ استجداءً للغذاءِ والرعايةِ، أو إعلانًا لسيادَةٍ عُشٍّ أو مِنطَقَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أو نِداءً للزوجِ أو الصِّغارِ، أو إنذارًا للغُربَاءِ، أو تحذيرًا لسائرِ الأفرادِ من خطرٍ داهمٍ.

والثَّدْيِيَّاتُ الرَّاقِيَةُ تستعينُ بالأصواتِ في تنظيمِ مجتمعاتِها، كما في القِرَدَةِ العَاوِيَةِ والقِرَدَةِ النابِحَةِ. ولكنَّ القردةَ العُليا عاجِزَةٌ تمامًا عن تعلُّم لُغَةِ الإنسانِ، إلاَّ في حدودٍ ضيِّقَةٍ للغايَةِولغةُ النّحلِ تعتمِدُ على الحَرَكَةِ واللَّمْسِ (والشَّمِّ والذَّوقِ)، حتَّى إنها توصَفُ بأنَّها لُغَةٌ راقِصَةٌ.

 

وهي تتميَّز بأن النّحلَةَ تستطيعُ أن تنبئَ بها عن أشياءَ لا تراها النحلاتُ المخاطبَةُ. وهي، في هذه الناحِيَةِوحدَها، تشبهُ لغةَ البَشَرِ

وقد درسَ عالِمُ السُّلوكِ النمْسَوِيُّ كارْل فون فِريش (1886 – 1982) ومعاونوه لغةَ النّحلِ العجيبَةَ دراسةً رائِعَةً، حتَّى إنه استحقَّ عام 1973 جائزةَ نوبل (مشترِكًا مع لورِنْتْز و تِنْبِرْجِنْ، اللّذيْن سَبق ذِكْرُهما في هذا المدخلِ).

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى