الظروف التي عانى منها العالم “باستير” أثناء الحرب الألمانية – الفرنسية
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول
صبري الدمرداش
KFAS
العالم باستير الحرب الألمانية – الفرنسية أحداث تاريخية المخطوطات والكتب النادرة
أيتها الحرب… عليك اللعنة!
كان الهدف الأساسي في حياة باستير هو مساعدة الجنس البشري، وكان يأمل في مجيء ذلك اليوم الذي يتمتع فيه الإنسان بتفاهم وتعاون أقوى من أخيه الإنسان.
ولكن قيصر بروسيا الأول ومستشاره بسمارك صاحب سياسة الدم والحديد أعلنا عن عقيدة دموية تتنافى وما كان يؤمله باستير تماماً، وهي (تمجيد القوة ووأد العدالة)، وشرع جيشهما في وضع هذه العقيدة موضع التطبيق.
فقد اجتاح الجيش الألماني فرنسا. وهنا عرض باستير خدماته من أجل وطنه. ماذا يفعل؟ إن شلله الجزئي يحول بينه وبين مشاركته في القتال.
ولكن لا بد من عمل شيء ما للتعبير عن استنكاره مثل ذلك الجنون الدموي من جانب ألمانيا. ولم يكن أمام باستير من سبيل وقد هدَّه المرض غير أن يرد شهادة الدكتوراه الفخرية في الطب التي كانت منحتها له جامعة بون.
ومن ثم كتب إلى عميد كلية الطب الألماني قائلا: (إن ضميري يحملني على أن أطلب إليكم أن ترفعوا اسمي من سجلات جامعتكم، وأن تستردوا شهادتكم دليلاً على حنقي وغضبي كمواطنٍ فرنسي أثارته بربرية ذلك الرجل (يقصد قيصر بروسيا) الذي يصر على قيادة أمتين عظيمتين إلى المذبحة، إرضاءً لكبريائه الأثيمة ونوازعه الشرِّيرة).
ماذا كان الرد؟ وماذا يكون من معتدٍ أثيم أخذته العزة بالإثم؟! … انظر إلى بعض سطوره: (إن الموقِّع أدناه، وهو عميد كلية الطب في بون، قد طلب مني الرد على تلك الإهانة التي جرؤت على توجيهها إلى الأمة الألمانية في شخص إمبراطورها العظيم المقدس الملك غليوم ملك بروسيا، وذلك بأن يرسل إليك تعبيراً عن الاحتقار البالغ، إلخ).
حاشية: (حيث إن الجامعة لا تريد أن تلوث ملفاتها، فإننا نرد إليك مع هذا خطابك الذي أرسلته).
سلوى…
لاحظ باستير، بقلبٍ مترع بالأسى، عمليات السلب والنهب التي كان يقوم بها جنود الجيش الغازي الذي كان مبدؤهم في الغزو، كما صاغه لهم بسمارك : (ألا يتركوا لأهالي المناطق المحتلة أي شيءٍ إلَّا عيونهم ليبكوا بها!).
وبالإضافة إلى الكرب الذي كان يحسه باستير نحو وطنه، فإنه كان يستشعر كرباً آخر. فقد استبد به قلقه على ولده الذي كان جاويشاً متطوعاً في الجيش الفرنسي. ووصلت الأخبار إلى باستير بأن الجنرال بورباكي، الذي كان ابنه يحارب تحت قيادته، قد حاقت به هزيمة منكرة وأن جيشه كان يولي الأدبار أمام الألمان المهاجمين.
وشرع الكيميائي المفجوع في البحث مع زوجته عن ابنهما مؤمّلين، حيث لا أمل، أنه ما زال في عداد الأحياء.
وركبا عربة قديمة محطمة وانطلقا في طريقهما من أربوا متتبعين الطريق المغطاة بالثلوج والتي سار فيها الجيش المنسحب. كيف يعثران على الابن المفقود وجثث الموتى متناثرة وأشلاؤهم مبعثرة في كل مكان، والمرضى والجرحي يهيمون على وجوههم، وقد تهلهلت ملابسهم العسكرية إلى أسمالٍ بالية تتدلي من فوق أجسامهم جمَّدها البرد وهم يتسولون مستجدين لقمة من خبز أو غطاء يخفف عليهم زمهرير الصقيع.
ووسط هذا الجو الموحش والمفعم بالأمل البعيد، كان هناك شيخ حزين يمر في كل مكان ولا يكف عن ترديد نفس السؤال: (هل رأيتم الجاويش باستير؟) ولم يكن يتلق غير جواب واحد لا يتغير وهو هزة الرأس بالنفي.
إن الأمل ضعيف في أن يعثرا على ابنهما المفقود، إذ لم يبق إلا ثلاثمائة رجل على قيد الحياة فقط من بين ألفي ومائتي رجل كانوا معه في أورطة المشاة الخفيفة.
ولاح الأمل… شعاع من أمل، فقد دخلت عربتهما التي كادت أن تتقطع أوصالها إلى بونتارلييه، وكان عدد من الجنود قد التفوا حول نار مشتعلة وهم من البرد يرتجفون وأجابهما الجنود قائلين: الجاويش باستير؟
أجل لقد رأيناه بالأمس، إنه ما زال حياً وإن كان في حالة سيئة، وربما استطعتما أن تقابلاه على الطريق المتجهة إلى شافوا.
ووليا وجههما شطر شافوا حيث وصلاها بعد عناء. وفي شافوا لمحا عربة نقل تقعقع فوق الطريق المغطاة بالجليد، وكان يرقد بداخلها أحد الجنود فوق كومة من القش وقد تدثر بسترة مهلهلة، وكان الظلام دامساً لا يسمح بتبين ملامحه فتحول الكيميائي الشيخ الباحث عن ابنه نحو سائق العربة يسأله متهلفاً: (هل رأيت الجاويش باستير؟).
ورفع الأمل- اقصد الابن المفقود – رأسه صائحا (أبي!… أمي!…) وكم كانت فرحة اللقاء حارة تهدهد الجسد المتعب وتجبر الخاطر الكسير وتوقظ القلب المكلوم، وأخذا الابن وعالجاه، وبعد أن شفي من جراحة التحق بفرقته ثانية وبقي حياً حتى نهاية الحرب، وكان في ذلك بعض السلوي في حياة باستير الحزينة.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]