الفوردية: نموذج مجتمع العمل في مجتمع السوق النابض بالحياه
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
في حين حوّل بروز العمل المأجور الحياة اليومية خلال السنوات الأولى من الرأسمالية، كانت الفترة الأكثر ارتباطاً بـ"مجتمع العمل" هي تلك المعروفة بـ"الفوردية" في الاقتصادات الرأسمالية المتطورة خلال منتصف القرن العشرين. خلال هذه الفترة، أصبح العمل المأجور الشكل الرئيسي للاندماج الاجتماعي (Beck 2000) – السبيل الأساسي ليجد الناس مكانتهم (أو يندمجوا) في المجتمع.
استمدت الفوردية اسمها من الممارسات التنظيمية المطبقة في شركة "فورد موتور كومباني" ومالكها هنري فورد، الذي كان رائداً في الإنتاج الشامل للسيارات. يشبه النظام الذي اعتمده فورد (نوقش في الفصل 3) مبادئ الإدارة العلمية في النظرية التايلورية (انظر المربع 1.8).
المربع 1.8 الإدارة العلمية
تشير الإدارة العلمية إلى التقنيات التي ابتكرها المدير والمهندس الصناعي الأميركي فريديريك تايلور في أواخر القرن التاسع عشر. عُرِفت ممارسته هذه أيضاً بالـ "تايلورية". كان تايلور (1911) معنياً بوجود أوجه قصور على نطاق واسع في الاقتصادات الصناعية. وكان واثقاً من أنها يمكن أن تُعالج من خلال "الإدارة المنهجية" (Systematic Management) للعمل التي تستند إلى القوانين والقواعد والمبادئ العلمية.
ويمكن تطوير المعرفة العلمية بوسائل الإنتاج من خلال تحليل دقيق للوقت الذي يستغرقه العمال والتقنيات التي يستخدمونها في أداء مهام معينة. تتيح هذه المعلومات للمدراء تطبيق العمليات الأكثر "فعالية". لكن ثمة اختلاف بشأن تأثير التايلورية على العلاقة بين العمال وأرباب العمل في القرن العشرين.
تقرّ حجة شائعة بأنّ مبادئ التايلورية زادت قدرة التخطيط لدى المدراء ومكننة الإنتاج. وقد أتاحت ذلك من خلال زيادة تقسيم العمل والتنظيم الهرمي في الشركات مع كبح مهارات واستقلالية اليد العاملة في آن (Braverman 1975). بيد أنّ آخرين يؤكدون أنّ عمل تايلور وزملاءه تمّ بالتعاون مع الحركات العمالية آنذاك كجزء من دور تنظيمي أكبر للعمال في مسار العمل (Nyland 1996).
بغض النظر عن نوايا تايلور وطموحاته الشخصية فإنّ إرثه عميق. اليوم، يبدو مفهوم تحسين "فعالية" سير العمل لزيادة الإنتاجية موضع إجماع. فتحسين الإنتاجية هو هدف الشركات وتظهر هذه الفكرة عادة في خطابات السياسيين وصانعي السياسات. بات المدراء اليوم يستعملون تقنيات تايلور في قطاعات وصناعات جديدة، بما في ذلك الخدمات. على سبيل المثال، غالباً ما تمثّل مراكز الاتصال بيئة عمل خاضعة لمراقبة عن كثب وإدارة مُحكمة تعكس في بعض الأحيان ظروف المصنع في مطلع القرن العشرين في ما يتعلق بخطوط الإنتاج (Hingst 2006, p. 7)
كان فورد معنياً أيضاً بحياة العمال خارج مكان العمل. عام 1914، زاد بمعدل الضعفين أجر بعض من عماله مقابل مراقبة حياتهم الخاصة وتشجيعهم على تبني معايير السلوك "الأخلاقي" (Edgell 2006). هدفت هذه الزيادة في الأجر إلى توليد حس بالولاء لشركته وتحفيز الطلب على سيارات شركة "فورد موتور" في صفوف القوة العاملة لديه. يهدف تطبيق المعايير الاجتماعية إلى التخفيف من الشعور بالبُعد، والتغيب عن العمل، وعدد العمال البدلاء في شركة "فورد".
منذ ذلك الحين، أصبحت "الفوردية" مرادفاً لمجموعة أوسع من المؤسسات التي حققت ازدهاراً طويل الأمد. كانت هذه حقبة من النمو والاستقرار الاقتصادي الشامل. حقق معدل البطالة مستويات منخفضة تاريخية وكانت معظم الوظائف بدوام كامل. وكذلك أضحت أنماط التوظيف أكثر استقراراً. وبقي الكثير من الناس في الوظيفة نفسها، مع رب العمل نفسه في معظم الأحيان، طوال حياتهم أو معظمها. دعمت استقرار التوظيف مجموعة من "التسويات" التي تستند إلى "صفقات ضمنية" بين نقابات العمال والشركات. اختلفت طبيعة هذه التسوية بين دولة وأخرى، من اتفاقيات رسمية في الدول الشرِكاتية كألمانيا، إلى "الاتفاق غير الرسمي بين العمال والرأسماليين" (Gordon, Edwards & Reich 1944) الذي ظهر في الولايات المتحدة ونوقِش في الفصل 7. حرصت هذه الاتفاقات على أن ينال العمال زيادات في الأجر تتماشى مع إنتاجيتهم وذلك مقابل موافقتهم على القرارات الإدارية والامتناع عن المشاركة في إضرابات اتحاد نقابات العمال، وهذا ما وفّر للعمال أجوراً حقيقية ترتفع باستمرار.
في معظم الأحيان كان استقرار التوظيف مدعوماً من خلال التشريع الصناعي الذي روّج للتفاوض الجماعي مما يعني أنّ النقابات كانت معنية بشكلٍ مباشر بالمفاوضات بشأن الأجور وظروف العمل. هذه البيئة القانونية، إلى جانب أنماط توظيف ثابتة، ساهمت في ارتفاع معدلات العضوية في النقابات على امتداد العالم المتطور. واستمرت الإضرابات لكن في الكثير من الدول تم التعامل مع النقابات المتطرفة بقسوة، بما في ذلك من خلال القمع المباشر الذي تمارسه الدولة والذي يميل إلى الحد من النضال النقابي.
أتاحت التطورات التكنولوجية الإنتاج الأكثر فعالية لمجموعة واسعة من البضاعة الاستهلاكية، من السيارات إلى المنتجات المنزلية. وهذا ما جعل نمط الحياة الاستهلاكي يمتد إلى شريحة أكبر من الناس. كذلك، سهّل التوظيف الثابت الابتكارات في الأسواق الائتمانية. فيما كانت التسليفات تقتصر في السابق على الشركات والأثرياء إلى حد كبير، وأسهمت أشكال جديدة من الائتمانات، كالرهون و"الشراء بالاستأجار" (Hire Pusrchase) في توفير التسليفات لشريحة أكبر من السكان، مما أتاح استهلاكاً أكبر.
فضلاً عن ذلك، شجّع الاستقرار الوظيفي تماثل العمال على نطاق واسع مع وظيفتهم ومكان عملهم. وتظهر شارون بيدر (2000) كيف بذل أرباب العمل جهوداً متعمدة لتشجيع العمال على التماثل مع شركاتهم (عوضاً عن طبقتهم) من خلال مجلات وكتيبات خاصة بالشركة. ظنّ أرباب العمل أنّ ذلك قد يقلل النزاعات في مكان العمل. وترى بيدر أنّ هذه التدابير كانت تهدف إلى زرع قيم تشبه "أخلاقيات العمل البروتستانتية" التي وضعها فيبر.
استندت الفوردية أيضاً إلى دولة رفاهة تستهدف العمال وعائلاتهم. ففي الكثير من الدول، يرتبط التأمين الصحي، ومعاشات التقاعد وإعانات البطالة بالتوظيف. وهذا ما أسماه ريتشارد تيتموس (Richard Titmuss) (1958) "الرفاهية المهنية" (Occupational Welfare). والعكس بالعكس، لم يتلقَّ من هم خارج سوق العمل إلا أدنى مستوى دعم من الدولة في إطار "شبكة الأمان" (Safety Net).
بيد أنّ الفوردية لم تكن نظام مساواة، بل نظام عمالة "مجزأة"(Gordon, Edwards & Reich 1982). وفيما توسعت القوى العاملة التي تقوم بالأعمال اليدوية أو ما يُسمى "العمال ذوو الياقات الزرقاء"، حذا حذوها "العمال ذوو الياقات البيضاء" والقوى العاملة الإدارية، وهذا ما أدى إلى نشوء طبقة بيروقراطية جديدة داخل الشركات الكبرى، كما هو مبيّن في الفصل 7. كذلك، انقسمت القوى العاملة الفوردية على أسواق عمل "رئيسية" و"ثانوية". احتوت أسواق العمل الرئيسية الوظائف التي تتسم بأجر مرتفع نسبياً، باستقرار في التوظيف وبفرص ترقية (تُسمى أسواق العمل الداخلية). أما أسواق العمل الثانوية فقدمت عادة أجراً أدنى وأماناً وظيفياً أقل، وفرصاً أقل للتقدم المهني.
بشكلٍ عام، تنعّم العمال الذكور والبيض في الصناعات الاحتكارية الكبرى بمنافع الفوردية. بالمقابل، غالباً ما أساء تقسيم سوق العمل إلى النساء والعمال غير البيض وجعلهم أسرى وظائف أقل أماناً وأدنى أجراً. جاء ذلك نتيجة التمييز الرسمي (مثال السياسات التي تمنع النساء المتزوجات من أن يتوظّفن) ونهج التمييز غير الرسمي الذي نوقِش في الفصل 4. وفي حين قامت الحركات الاجتماعية الجديدة بحملات في سبيل إزالة معظم التمييز غير الرسمي، واستمرت اللامساواة في سوق العمل.
تغيرات في مجتمع العمل
منذ سبعينات القرن الماضي، بدأ تنظيم العمل في الاقتصادات الرأسمالية بالتغيّر. يُستعمَل مصطلح "ما بعد الفوردية" لوصف حركة تختلف عن نُظُم الإنتاج الصناعي الضخمة، والطبقة العاملة الضخمة والبيروقراطيات الإدارية الكبرى في عهد الفوردية. "المرونة" و"اللامركزية" هي المبادئ التوجيهية لتنظيم العمل والإنتاج في مرحلة ما بعد الفوردية.
ما بعد الفوردية
يتقدّم واضعو نظريات ما بعد الفوردية بادعاءات إيجابية ومعيارية في آن. بمعنى آخر، هم يناقشون كيفية تغيّر الاقتصاد وما إذا كان ينبغي الترحيب بهذه التغيرات أم لا. ويقول البعض إنّ مرونة مرحلة ما بعد الفوردية طاولت الاقتصاد ككل في حين يقول آخرون إنها بقيت منحصرة بقطاعات معينة دون غيرها. ويرى مؤيدو ما بعد الفوردية أنّ المرونة حفّزت المنافسة حتى إنها زادت أيضاً مهارات العمال واستقلاليتهم، فيما يرى النقّاد أنّ المرونة تزيد عدم المساواة وتقوّض ظروف العمل.
ترتبط مجموعة من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية بهذا التحوّل. وطعنت الحركات الاجتماعية ببعض الأسس الاجتماعية للفوردية. فمنذ ستينات القرن الماضي، دخلت النساء إلى القوة العاملة بأعداد أكبر، في حين طالبت أقليات إثنية كثيرة بحقوق سياسية وصناعية أكبر. وقد ساعد رفع مستويات التعليم والتقنيات الجديدة في جعل بعض أشكال الإنتاج لامركزية. وطرحت الأزمة الاقتصادية التي حدثت في سبعينات القرن الماضي (الفصل 6) تساؤلات اقتصادية أشمل دفعت البعض إلى الدعوة إلى إصلاحات جذرية في السوق قوّضت استقرار التوظيف في المرحلة الفوردية.
يرى مشجعو إنتاج ما بعد الحقبة الفوردية، مايكل بيور وتشارلز سابل (Micheal Piore & Charles Sable) (1984) أنّ مرحلة ما بعد الفوردية تتيح "تخصصاً مرناً" (Flexible Specialisation). في هذه المرحلة تستطيع الشركات أن تستجيب بسرعة لظروف السوق المتقلبة من خلال تغيير كميات البضاعة المنتجة وأنواعها. لعل العنصر الأساسي في هذه العملية هو استعمال فِرَق إنتاج تضم عدداً من العمال المتعددي المهارات الذين يتشاركون في إنتاج سلع كاملة عوض أن يركّز كل عامل على نشاط منفصل.
يدّعي بيور وسابل أنّ النماذج التي تستند إلى العمل الجماعي تتيح اتخاذ قرارات أقل مركزية وأقل هرمية فضلاً عن اندماج أكبر بين الإدارة وفرق الإنتاج. وهكذا يصبح العمال قادرين على المشاركة في تشغيل الشركة (Amin 1994, pp. 20-21)، ما يحد من شعور العمال بالبُعد والملل. ويرى منظّرو ما بعد الفوردية أنّ الفرق المتعددة المهارات أكثر فعالية. فهي أكثر قدرة على الاستجابة بسرعة للظروف المتغيرة من خلال الإنتاج "المبرمج". يتميز هذا النموذج بأنّه يخفض فارق الوقت ما بين الاستثمار والبيع ويمكن أن يسمح للشركات بالتجاوب بسرعة أكبر مع التقنيات المتغيرة أو أذواق المستهلكين.
اعتبر الكثير من علماء الاجتماع الاقتصاديين أنّ هذا النموذج يسهّل بروز الشركات الصغرى، مدمراً بالتالي السيطرة البيروقراطية للشركات الاحتكارية الكبرى (Trigilia 2002). في هذا الاطار، تكون فِرَق الإنتاج منظمة بشكلٍ فعال ضمن مجموعة من الشركات الأصغر حجماً لا على شكل وحدات ضمن شركة واحدة أكبر حجماً. تتواصل الشركات الأصغر حجماً من خلال شبكات تعاقدية تخوّلها تحقيق منافع من خلال حجمها في مجالات كالتسويق وتدريب العمال المهرة عبر تجميع الموارد. يعتبر ذلك ناجحاً جداً في الصناعة ذات التقنية العالية حيث أصبحت المهارات الحرفية أكثر أهمية والطلب يتغيّر بسرعة. خير مثال على ذلك الضواحي الصناعية الجديدة في "إيطاليا الثالثة" التي تنتج الأزياء الراقية أو الزجاجيات (Goodman &Banford 1989)، أو صناعة النبيذ في أستراليا (Smith & March 2007).
إن تطوير تكنولوجيات جديدة أمر أساسي لظهور مرحلة ما بعد الفوردية. يمكن للتكنولوجيات الجديدة أن تساعد على المرونة، وذلك بالحد من الحاجة إلى العمل وتعزيز الإنتاجية (Amin 1994, p. 17). كما أن تكنولوجيا المعلومات القائمة حول أساليب اتصالات جديدة كانت لها أهمية كبرى أيضاً في التغلب على قيود الزمان والمكان، الأمر الذي يسَّرَ "العمل من المنزل" ووفّر المرونة لدى العمال في تنظيم أوقات عملهم.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]