تعريف “المانع بحكم العادة”
1995 الحاسوب والقانون
الدكتور محمد المرسي زهرة
KFAS
المانع بحكم العادة الحاسب الالكتروني العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة
يكاد يجمع الفقه والقضاء، في مصر وفرنسا ، على أنه إذا جرت العادة على عدم إعداد دليل كتابي من نوع معين من المعاملات ، فإن هذه العادة تعتبر مانعاً يُجيز الإثبات بكافة طرق الإثبات .
ومن هذا القبيل ما جرت عليه عادة " أصحاب الفنادق والمطاعم والمقاهي ألا يأخذوا دليلاً كتابياً على ما يقدمون إلى عملائهم من خدمة ومأكل ومشرب .
وجرت عادة التجار الا يأخذوا دليلاً كتابياً على ما يرسلونه إلى المنازل من سلع…" . بل أن البعض يرى أن مثل هذا المانع يشمل المعاملات التي تتعلق بالعمل بوجه عام "فليس هناك أنبل من العمل الإنساني حتى ولو كان يدوياً أو مأجوراً".
والحقيقة أن ما يُطلق عليه "موانع بحكم العادة" ليس في حقيقته سوى تطبيق للتفسير الواسع لفكرة المانع الذي اعتنقه الفقه والقضاء .
فالصعوبة ناتجة عن العادة : أحدهما (العادة) سبباً ، والأخرى (الصعوبة) نتيجة. ونعرض فيما يلي لتاصيل ما يُسمى المانع بحكم العادة ومدى إمكانية اعتبار التعامل بالحاسب من قبيل المانع بحكم العادة .
أولاً: تأصيل المانع بحكم العادة
اختلف الفقه في تاصيل القضاء السابق . فالبعض يفرق بين ما إذا كانت العادة عامة بحيث يمكن اعتبارها عرفاً ، وبين العادة "الخاصة" التي جرى عليها شخصان فيما بينهما من تعامل : فالعرف هو الذي يجيز ، في العادة العامة ، الإثبات بالبينة . إذ لا مانع من أن يخالف العرف التشريع في غير المبادئ الأساسية التي يتكون منها النظام العام .
ويكون العرف – هنا – مخالفاً لنص المادة 63 إثبات مصري. أما بالنسبة للعادة "الخاصة" فيمكن اعتبارها ، حسب الظروف ، دليلاً على وجود صلة قوية بين الطرفين تجعل من المستحيل أدبياً على أحدهما طلب "كتابة" من الآخر .
فالمانع – هنا – أدبي وليس مادياً . بينما يرى البعض الآخر أن المانع المادي والمانع الأدبي يتلاقيان عند العادة ، ويختلط أحدهما بالآخر .
" فالعادة من حيث إنها تضع قاعدة مألوفة للسلوك المتبع يتعذر معها الحصول على دليل كتابي تكون مانعاً مادياً ، ومن حيث إنها تتغلغل في النفوس إلى حد يحجم معه المتعاملون عن طلب دليل كتابي تكون مانعاً أدبياً". لكن هل يمكن أن ينشأ عرف مخالف للتشريع ؟
يرى الفقه بوجه عام التفرقة بين القواعد القانونية الآمرة والقواعد القانونية المكملة : فإذا كان النص التشرعي يقرر قاعدة آمرة ، فلا يجوز أن ينشأ عرف مخالف لها . فالقواعد الآمرة "جزء" من النظام العام والآداب .
و"العرف المعتبر قانوناً هو ذاك الذي لا يخالف النظام العام وحسن الآداب . فالعادات التي تتنافى مع الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تقوم عليها الجماعة التي لا ترقى ابداً إلى مرتبة العرف ، وإن طال عليها الأمد … .أما إذا كان النص التشريعي يقرر قاعدة قانونية مكملة ، فلا مانع من أن ينشأ عرف مخالف لها .
والحقيقة ، في اعتقادنا ، أن المشكلة لا تكمن فقط في مدى جواز نشأة عرف مخالف للتشريع ، وإنما أيضاً في إمكانية تطبيق القاضي لمثل هذا العرف المخالف .
وإذا كان صحيحاً ، قانوناً ، أن ينشأ عرف مخالف لقاعدة قانونية مكملة ، فإن التساؤل يثور حول إمكانية تطبيق العرف واستبعاد التشريع .
هناك حالات لا خلاف عليها – بداءة – حول وجوب الرجوع إلى العرف أولاً قبل النص التشريعي . فالأولوية ، في مثل هذه الحالات ، تعطى للعرف بدلاً من التشريع . لكن الأولوية المقررة للعرف – هنا – قد نصّ عليها المشرع صراحة .
وهو ما يُسمى بالعرف "البديل" . أما فيما عدا هذه الحالات التي يُحيل فيها المشرع صراحة إلى العرف ليُطبق بدلاً من التشريع ، فإن تطبيق العرف المخالف للتشريع يبدو محل شك .
فالمادة الأولى من القانون المدني الكويتي تنص على انه : 1- " تسري النصوص التشريعية على المسائل التي تتناولها هذه النصوص بمنطوقها أو بمفهومها ". 2- فإن لم يوجد نص تشريعي ، حكم القاضي بمقتضى العرف . فإن لم يوجد عرف اجتهد القاضي رأيه مستهدياً بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقاً مع واقع البلاد ".
وهو نص آمر يلتزم القاضي بمقتضاه بالترتيب الذي أورده المشرع في تطبيقه للقواعد القانونية . فالتشريع يأتي في المرتبة الأولى ، ثم العرف إذا لم يوجد نص تشريعي ينظم المسألة محل النزاع . فشرط لجوء القاضي إلى العرف هو غياب النص التشريعي آمراً كان أم مكملاً .
ومن ثم ، فالقاضي لا يمكن أن يلجأ إلى تطبيق العرف واستبعاد النص التشريعي ، حتى ولو كان مكملاً ، وإلا حالة ما إذا أحال المشرع إلى العرف ليأخذ به القاضي بدلاً من النص التشريعي .
فالعرف إذن هو المصدر الذي يلي التشريع مباشرة . ويشترط لتطبيقه غياب النص التشريعي . وفي ضوء هذا الترتيب الملزم ، لا يجوز للقاضي أن يأخذ بالعرف في حالة وجود نص تشريعي .
قد يُقال أن المشرع بإحالته ، في بعض الحالات ، إلى العرف بالرغم من وجود نص تشريعي ، إنما يُعبر عن "إرادته" في السماح للقاضي بتطبيق العرف الذي نشأ مخالفاً لقاعدة مكملة واستبعاد هذه الأخيرة.
والحقيقة إن قصد المشرع – في هذا الصدد – ليس واضحاً تماماً . فتارة نراه ينص على استبعاد تطبيق القاعدة المكملة كلما وُجد اتفاق بين الطرفين على خلاف حكمها، بينما نراه ، تارة أخرى ، ينص على استبعاد تطبيق حكم القاعدة المكملة كلما وُجد اتفاق أو عرف يقضي بخلاف حكمها، وتارة ثالثة ينص على الاتفاق قبل العرف، وأحياناً أخرى ينص على العرف قبل الاتفاق، وأحياناً قليلة على العرف وحده.
ويمكن أن نستخلص من موقف المشرع ، في مصر والكويت ، في هذا الخصوص بعض الملاحظات :
(أ) أن المشرع المصري والكويتي ، يوجب ، في حالات معينة ، على القاضي أن يستبعد حكم القاعدة المكملة كلما وُجد اتفاق أو عرف يقضي بخلاف حكمها .
لكنه ، اي المشرع لم يقرر هذا الاستبعاد كقاعدة عامة في كل مرة يوجد فيها اتفاق أو عرف ، وإنما حصره في حالات معينة قررها صراحة .
(ب) إن المشرع في مصر والكويت قد قدم الاتفاق على العرف في كافة الحالات التي أجاز فيها استبعاد حكم القاعدة المكملة إذا وُجد اتفاق أو عرف يقضي بخلاف حكمها . ولم يقدم المشرع المصري العرف على الاتفاق إلا في حالة واحدة فقط، بينما قدم المشرع الكويتي الاتفاق على العرف في الحالة نفسها.
(ج) إن المشرع المصري ، وكذلك نظيره الكويتي ، لم يهدف في الحالات التي نص عليها إلى تطبيق خطة معينة ، أو تحقيق هدف محدد – بل تبدو الحالات التي سمح فيها باستبعاد القاعدة المكملة بمقتضى الاتفاق أو العرف وكأنها عشوائية لا تجمعها حكمة معينة .
ولم نستطع – حقيقة – أن نتبيّن السبب الذي من أجله نص القانون في حالات معينة على استبعاد القاعدة المكملة إذا وُجد عرف مخالف ، وعدم النص على ذلك في حالات أخرى. فالقاعدة مكملة في كلتا الحالتين .
(د) إن الخطة التي سار عليها المشرع – إذا كان هناك خطة ! – تؤدي ، في بعض الأحيان ، إلى مفارقات تبدو "غريبة" وربما غير مقصودة . فتقديم العرف على الاتفاق كما فعل المشرع المصري في المادة 656 مدني يؤدي إلى أن وجود العرف يستبعد القاعدة المكلمة واتفاق الطرفين ، بينما تقديم الاتفاق على العرف ، كما فعل المشرع الكويتي في المادة 676 مدني ، يؤدي إلى استبعاد كل من القاعدة المكملة والعرف إذا وجد اتفاق بين الطرفين .
على أنه اياً كان موقف المشرع ، فإنه يترتب عليه النتائج الآتية :
(أ) إن الاتفاق يستبعد ، متى وجد ، حكم القاعدة المكملة سواء نص المشرع على ذلك صراحة أم لا . فالقاعدة المكملة تكون واجبة التطبيق ، ما لم يتفق على خلاف حكمها .
(ب) إن العرف لا يستبعد ، متى وجد ، حكم القاعدة المكملة إلا إذا نص المشرع على ذلك صراحة . حيث تبدو فائدة النص في أنه يسمح للقاضي أن "يتخطى" الترتيب الوارد في المادة الأولى وإعمال حكم العرف بالرغم من وجود نص تشريعي .
وقد يُقال – أيضاً – أن العرف المخالف يجب أن يستبعد ، مثل الاتفاق تماماً ، حكم القاعدة المكملة سواء نص المشرع على ذلك صراحة أم لا ينص لأن العرف أكثر تعبيراً عن "إرادة" الجماعة من القاعدة المكملة .
فالعرف هو "نتاج" إرادة الجماعة ، بينما التشريع ما هو إلا تعبيراً عن إرادة المشرع وحده . لكن هذا القول لا ينهض – في اعتقادنا – دليلاً على أن العرف يستبعد القاعدة المكملة في غير الحالات التي نص عليها المشرع .
ولو كان صحيحاً أن العرف يستبعد حكم القاعدة المكملة لأنه تعبير عن إرادة الجماعة ولو لم ينص المشرع على ذلك ، لكان في مقدور العرف أن يستبعد ايضاً اتفاق الأطراف . فالاتفاق لا يعكس سوى إرادة طرفيه ، بينما يعكس العرف إرادة الجماعة .
وهي نتيجة لم يقل بها أحد . ولعل هذا هو السبب الذي من أجله قدم المشرع دائماً الاتفاق على العرف في الأحوال التي نص فيها على استبعاد القاعدة المكملة متى وجد اتفاق أو عرف بخلاف حكمها.
الخلاصة في اعتقادنا إذن أن العرف المخالف لا يجوز أن ينشأ ، قانوناً ، على خلاف حكم قاعدة آمرة ، وإن كان يجوز أن ينشأ مخالفاً لحكم قاعدة مكملة . لكن جواز نشأة هذا العرف المخالف لا يعني – في نظرنا – استبعاد القاعدة المكملة وتطبيق العرف في كافة الحالات .
فالمشرع قد نص على هذا الاستبعاد في بعض الحالات صراحة . أما فيما عدا هذه الحالات ، فيصعب القول بالاستبعاد لأن القاضي يلتزم بالترتيب الوارد في المادة الأولى من القانون المدني . ويترتب على ذلك أن العرف المخالف لا يصلح – في نظرنا – لتاصيل ما يسمى بالمانع بحكم العادة .
والواقع أننا لسنا بحاجة إلى البحث عن تأصيل قانوني لهذا النوع من المواقع طالما وُجدت فكرة المانع بالمعنى السابق .
فالمشرع قد أجاز بنص صريح الإثبات بكافة طرق الإثبات كلما وُجد مانعٌ يتعذر معه إعداد دليل كتابي . يستوي بعد ذلك أن يكون هذا المانع مادياً أو ادبياً .
فالمهم وجود مانع بالمعنى المقصود من قانون الإثبات . فإذا ما اعتاد الأفراد مثلاً التعامل فيما بينهم دون الحصول على دليل كتابي ، واستمر الأمر كذلك فترة من الزمن ، فإن طلب إثبات هذا النوع من المعاملات بالكتابة سيؤدي إلى اضطراب التعامل ، وربما تعثره ، الأمر الذي يمكن اعتباره مانعاً بحكم العادة يتعذر معه الحصول على دليل كتابي .
ثانياً: مدى اعتبار التعامل بالحاسب من قبيل المانع بحكم العادة
انتشر الحاسب الإلكتروني انتشاراً هائلاً في حياتنا العملية بحيث يمكن " إطلاق عصر الكمبيوتر على هذه الحقبة المعاصرة من التاريخ .
فقد تغلغل هذا الجهاز في جميع مظاهر الحياة الإنسانية على مستوى الدول وعلى مستوى الأفراد". فهو ، أي الحاسب ، يساهم في "ثورة ثقافية تقارن بتلك التي عرفها العالم عند اكتشاف المطبعة".
وقد ترتب على هذا الانتشار الهائل للحاسب الإلكتروني "تداول" مخرجاته بين الأشخاص ، وأصبح من المألوف اكتفاء الأشخاص بمثل هذه المخرجات عند إنجاز معاملاتهم عن طريق الحاسب .
وفي ضوء هذ الانتشار في كافة مجالات الحياة، اعتاد الأشخاص الاكتفاء "بمخرجات" الحاسب كدليل على إنجاز معاملاتهم ، وعدم إعداد دليل كتابي كامل بالمعنى المعروف في قانون الإثبات .
وبمرور الوقت يمكن القول بأن الأمر اصبح يشكل "عادة" بالمعنى القانوني للعادة من حيث الثبات والاستقرار والعمومية .
فقد راينا أن المانع بحكم العادة يوجد – قانوناً – كلما اعتاد الأشخاص ، في مهنة معينة مثلاً ، عدم إعداد دليل كتابي . وهو ما يحدث ، الآن ، بالنسبة لتعامل الأشخاص بوساطة الحاسب الإلكتروني. فالأشخاص قد اعتادوا الاكتفاء بما يقدمه لهم الحاسب الإلكتروني .
فالأشخاص قد اعتادوا الاكتفاء بما يقدمه لهم الحاسب من مخرجات لا ترقى – قانوناً – لمستوى الدليل الكتابي والمعد للإثبات . بل إن الشخص لا يستطيع الحصول على مثل هذا الدليل لو أراد ذلك . فالحاسب يعمل بطريقة معينة لا دخل للأشخاص فيها .
وتتنوع مخرجاته حسب حاجة من يستعمل الحاسب . والشخص ليس أماه – والحال هكذا – سوى أحد امرين : إما إنجاز معاملاته عن طريق الحاسب والاكتفاء بمخرجاته كدليل إثبات ، وإما "تعطل" إنجاز مصالحه ومعاملاته لأنه قد لا تكون أمامه وسيلة أخرى بعد إدخال الحاسب في معظم مجالات الحياة .
فهناك إذن استحالة مادية أمام الأشخاص للحصول على دليل كتابي . والاستحالة – هنا – هي مانع مادي بحكم العادة .
فإذا صح هذا التحليل ، جاز للقاضي – دون إلزام عليه – أن يأذن وإثبات ، ما كان يجب إثباته بالكتابة ، بالبينة والقرائن .
ويمكن للقاضي ان يقبل مخرجات الحاسب كدليل بديل عن الدليل الكتابي الكامل يكفي وحده في الإثبات ، وليس فقط مجرد دليل تكميلي كما هو الحال في "بداية" الثبوت بالكتابة .
وهكذا نستطيع ، عن طريق القول بوجود مانع في حالة التعامل بالحاسب ، أن نقبل مخرجات الحاسب في الإثبات كبديل للدليل الكتابي . ويمكننا أيضاً التغلب ، ولو مؤقتاً ، على مشكلة عدم توافر عناصر الدليل الكتابي في مخرجات الحاسب في الغالب الاعم من الاحوال .
وبهذا المفهوم ، نستطيع أن نحفظ لمخرجات الحاسب "حجيتها" في الإثبات ، وأن نحفظ للمتعاملين بالحاسب حقوقه مما يُشجع – في النهاية – الإقبال على التعامل بهذه الطريقة .
وبذلك يكون القانون في خدمة العلم ، يدعمه ويواكبه باستمرار بدلاً من أن يكون حجر عثرة أمام انتشار التقنيات العلمية الحديثة .
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]