العلوم الإنسانية والإجتماعية

دور العلم في تسهيل البحث عن المعنى وتوضيح غموض الأشياء

1996 تقنيات الطب البيولوجية وحقوق الإنسان

الدكتور يوسف يعقوب السلطان

KFAS

العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة

العلم في الثقافة: الإقرار الاجتماعي وتسهيل البحث عن المعنى من خلال المعرفة

في القرن التاسع عشر وصف هيجل Hegel (1807) الدين بأنه "المجال الذي تحدد الأمة في إطاره ما تعتبره حقيقة". 

ولقد اصبح العلم في نظر مجتمع القرن العشرين هو المحدد الرئيسي للحقيقة عن طريق التوضيح المستمر لكل ما يبدو غامضا. 

ومثل أي إبداع بشري يتم ذلك رغم حقيقة أنه يعكس فقط ما يدور في العقل البشري، وهو كما وضحه نيتشه Nietzsche (1988، ص 336) "لا نستطيع أن ننظر حول الركن الذي نحن فيه".  ولكن العقل لا يتواجد في داخل دماغ معزولة، وإنما يظهر من خلال التفاعل مع البيئة (برودي، 1990/ج):

 

تختار كل الحقائق من المضمون العالمي عن طريق أنشطة عقولنا.  وهي…  تُفسر .. وفقا لما يناسبنا، إما للقيام بوظائفنا في الحياة أو من وجهة نظر مجموعة القواعد المتعارف عليها من إجراءات التفكير التي تسمى المنهج العلمي (شوتز Schutz 1962، ص4).

هذا ويعتبر التحليل النفسي عند فرويد، والذي هو بمثابة محور تحديد الحقيقة لكثير من الأمور في القرن العشرين، متابعة وممارسة للوضوح. 

وهو بالنسبة لكثير من الدارسين علم تفسيري أكثر منه بيولوجي.  ولكن، على الرغم من قدرته القوية على الإقناع والإثارة، فهو هدف معرفي بحث بمعنى أن صيغته التحليلية عن اللاوعي لا يمكن أن تكون ثابتة على إطلاقها (برودين 1990/ج).

 

وفي نفس الوقت يسمح بناؤها النظري لاستقبال الملاحظات المتباينة لكي تتجمع في شكل متماسك، وبذلك يمكن استغلالها بمعنى جديد وفي بعض الاحيان مفيد علاجيا للمريض.

ولقد كان لتوضيح ما كان يعتبر في وقت من الأوقات غموضا تأثيراته على القيم والرموز المشتركة التي تعد في موقع القلب من الثقافة، ألا وهي التصميم من أجل الحياة، أما ما يطرأ عليها من تعديلات على ما تتناقله الأجيال، فهو أمر يحدث في كل مجتمع (كلوكهون Kluckhohn ، 1944).

 

وتستطيع الثقافة أن تكون الجسر الموصل الذي من خلاله تتحول العناصر الخارجية والجماعية إلى عناصر فردية شخصية وداخلية. 

وتقدم المعتقدات والقيم الثقافية المعاني او المفاهيم الجماعية التي يتكون منها مضمون الخبرة الفردية (ليفين Levine، 1981، ص64).  ويمكن للشكل الثقافي المشترك أن يصبح "رمزا شخصيا، يمثل الصراعات السابقة والتخلص منها" (كراك Kracke، 1976، ص9). 

 

ويستغل المعنى الشخصي في الرموز المشتركة مثل اللغة أو الأعمال الفنية أو في أنماط العمل (مثلا في الطقوس أو الشعائر) أو في المنافسة العادية أو المنافسة على الجوائز التي تمنح للتوصل إلى أهداف معينة مثل العلم أو المعرفة أو الحقيقة. 

وكلها أمور ترتبط بإحساس الإنسان بهويته كشخص له أهداف وقيم خاصة في مقابل أهداف وقيم أناس آخرين أو العالم كله مما لا يمكن معرفته وكذلك ما هو ممكن. 

والبحث العلمي في حد ذاته يجمع بين كونه ظاهرة ثقافية وظاهرة تدخل في المضمون الاجتماعي التعليمي الذي يشكل الباحث، ولذا فهو يحاول فرض الطبيعة على الوحدات المفهومية التي ينتجها (كوهن Kuhn، 1975، ص5). 

 

والأهم من ذلك هو أنه يدار طبقا للمعايير الاجتماعية والقيم الثقافية السائدة ففي لحظات معينة من التاريخ يصبح على المرء أن يصوغ نسقا مفهوميا جديدا ثم يغري الآخرين بتفضيله على القديم (باولر Bowler 1989 ص8) ولكي تكون الظاهرة بينة، فلا بد أن تكون موافقة أو مناسبة للمستويات السائدة من الأفكار البشرية (جريفز Graves 1971، ص7).

وتحدد المستويات أو المعايير التي يضعها المجتمع البحثي فيما يتعلق بالمقبولية العلمية في وقت معين مدى النجاح في تأسيس الخط الرئيسي من الأبحاث، كما تتواجد القيود الاجتماعية بشكل ضمني أو مقنع عند وضع النظريات حتى تكون مقبولة من النظام البحثي الجديد (باولر Bowler 1989 ص9) ولكن مستويات الوضع والمقبولية لأهم النقاط الخلاصة بالدراسة تعكس العلاقات المبنية على القوة وكذلك على الوضوح الذهني للمجتمع البحثي.

 

وفي عهد البحوث المعاصرة التي تحتاج إلى أجهزة باهظة الثمن وهيئات ذات تدريب عال يعتمد النجاح في الحصول على الدعم اللازم للبرامج المعينة على الاتصالات بالاشخاص او مجموعات رفيعة المستوى في الحكومة أو في المجتمع العلمي. 

ويمكن أن يكون هذا هو الحال مع الأبحاث الأقل تكلفة إذا فهمت على أنها تهدد القيم الثقافية الراسخة بما في ذلك ما يعرف بحقوق الإنسان.

ومن الواضح جدا – وهذه اعتقادات شخصية مناقضة – أن المجتمع العلمي لا يتورط في بحث غير هادف أو عن حقيقة عديمة القيمة. 

وقد عبر لونجبينو (1990 Longino) عن الجدل حول العلم الذي يفترض أنه تلقائي وعديم القمية في صيغة سؤالين، كلاهما وثيق الصلة بأوجه حقوق الإنسان في البحث: الأول يسأل عن المدى الذي تؤثر فيه أو ينبغي أن تؤثر فيه النظريات العلمية في تشكيل وصياغة القيم الاخلاقية والاجتماعية.

 

أما الثاني فيسأل عن العكس أي عن مدى تاثير القيم الاجتماعية والأخلاقية في تشكيل النظريات العلمية. 

فالسؤال الأول له صلة باستقلالية التساؤلات الخاصة بالقيم الشخصية والاجتماعية والثقافية عن الإيحاءات والاكتشافات والابتكارات التي تنتج عن الاستقصاء العلمي، أما السؤال الثاني فإنه يتعلق باستقلالية محتوى وتطبيق العلوم عن الأفضليات الشخصية والاجتماعية والثقافية.  (لونجينو، 1990، ص 4-5). 

وفيما يتعلق ببحوث الطب البيولوجية المعاصرة وتطبيقاتها العلاجية فمن المحتمل أن "المبررات الظاهرة تكون دوما مستقلة المضمون"، وأن التفاعلات الاجتماعات هي التي تحدد القيم التي يستمر العمل بها في النظريات والمقترحات التي تؤخذ على أنها تعبير عن معراف علمية في أي وقت من الأوقات. 

 

وأن القيم تؤخذ في الاعتبار على أن تحلل الحقيقة الموضوعية على أنها من وظائف وممارسات المجتمع أكثر من كونها وجهة نظر الباحثين كأفراد"  (لونجينو، 1990، ص215-216). 

ولما كانت بحوث الطب البيولوجية قادرة على أن تسيطر تدريجيا على طبيعة الكائنات البشرية "وفي ذلك تهديد للعمليات السياسية وكذلك لمفاهيمنا عن جوهر الكائن البشري وحقوق الإنسان"، فإن المجتمع سوف يضمن لنفسه بالتدريج حق الرقابة على التحكم في البحث عن معارف جديدة.  وبذلك سيصبح مضمون البحث عن المعاني مثسيَّسا أو خاضعا للسياسة.

وأخيرا، قد يتشكل دول العلم، في بحث الإنسان عن المعاني، في صورة وظيفة قابلة للتكيف. 

 

وفيما يتجاوز الكفاح من أجل الوصول إلى غرض الوجود الإنساني ومعناه، هناك جزء يدخل في نطاق كفاح الإنسان من أجل التلاؤم مع أحوال العالم الذي يضم تلك المعاني. 

ورغم عزوف الإنسان فإن ذلك ينطوي على البراعة وكذا على الاعتراف والقبول لكل ما في الحياة البشرية من غوامض وضعف، مع حتمية حدوث المرض والعجز والموت. 

والعلم كما قال عنه لسلي هوايت (هو أولا وقبل كل شيء طريقة التعامل مع الخبرة، 1938).  ولقد بلغت الثقافة الغبية إلى الذروة في قدرة الإنسان على النظر إلى نفسه بموضوعية، ووصل ذلك إلى درجة أنها قادت الإنسان إلى البحث المستمر عن المزيد والمزيد من المعارف الصادقة عن نفسه (هالويل Hallowell، 1965).

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى