دور وجود أخلاقيات العمل في المجتمعات
1998 تقرير1996 عن العلم في العالم
KFAS
أخلاقيات العمل في المجتمعات العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة
من الجوانب الأساسية لأية مراجعة لحالة العلم في العالم في وقتنا الحالي، تلك المتعلقة بوضع العلماء في المجتمع وما يقع على عاتقهم من مسؤوليات، فضلا عن دور العلم في التقدم الحضاري على وجه العموم.
وبتعبير آخر، فإن أي تقرير عن "حالة العلم في العالم" لا يمكنه إغفال التطرق إلى تساؤل حاسم الأهمية في وقتنا هذا، ألا وهو المتعلق بماهية الأخلاقيات التي من المقترض اقترانها بالعلم.
وقد عمد <K.G.M. مينون>، وهو رئيس المجلس الدولي للاتحادات العلمية (ICSU) وعالم فيزياء مشهور ومن الأعضاء العاملين في البرلمان الهندي، إلى التطرق لهذه القضية تحت عنوان "الجوانب الأخلاقية وحقوق الإنسان والصورة العامة للعلم" في مقدمته الممتازة لتقرير "حالة العلم في العالم" لعام 1993.
وقد عني بتوضيح أن الإنجازات العلمية وحدها غير كفيلة بتحقيق التقدم الأخلاقي، تماما كما لا يمكنها ترسيخ حقوق الإنسان أو صونها، إذ إن تلك الأمور يتعين أن يضطلع بها الفرد نفسه- وهو المسؤول عن مصيره إن يكن المتصرَف فيه- فضلا عن المجتمع ككل.
ويمكن تناول هذه الفرضية من منظور أوسع، فعلى الرغم من أن رفاهيتنا تعتمد بدرجة كبيرة على إسهام كل من العلم والتقانة فإن الجميع في عصرنا هذا يدركون ما تنطوي عليه بعض تطبيقاتهما من أخطار على الجنس البشري.
فخلال هذا القرن شاهدنا العلم والتقانة يخدمان كلا من الخير والشر معًا. ففي حين عاصرنا اكتشافات طبية رائعة مثل البنسلين، أُسقطت قنبلتان ذريتان على هيروشيما ونكازاكي؛ وشاهدنا أولى الثمار الواعدة للثورة الخضراء جنبا إلى جنب مع وقوع حالات غير عكوسة من التضرر البيئي؛ كذلك، تم غزو الفضاء بينما نُهِبت الموارد النفيسة لكوكبنا.
ومما لا شك فيه، أن أخلاقيات العلم ليست بالقضية الجديدة. فقد اتصف تاريخ البشرية منذ بدايته بالإنجازات على درب الترقّي في المعرفة، كما أن النظريات العلمية التي فسرت هذه الإنجازات أدت دوما إلى مناظرات أخلاقية وفلسفية.
ويسهل تفهُّم ذلك عندما يتفوق التقدم العلمي على مجموع الإنجازات العلمية السابقة له أو يُشكِّك في صحتها، وهي التي كان يبدو أنها تملك الإجابة الحاسمة عن جميع التساؤلات. وفوق ذلك كله، فمن الواضح أن العلم -شاملا الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفلك والرياضيات -يتحدى المجتمع دوما من خلال الإيحاء، الضمني عادة، بوجود تفسير معيَّن للكون ومكانتنا فيه، إلا أن الأمل ضئيل في إمكانية التوصل في يوم ما إلى إجابة علمية شافية لهذا الأمر الأساسي الأهمية الذي يتحدى العقل.
فالواقع إن التفسير العلمي للآليات المسيِّرة للكون سينطوي دوما على عواقب فلسفية وسياسية. مثال ذلك، البلبلة التي أحدثتها الثورة الكوبرنيكية ومحاكمة "كاليليو" أمام محاكم التفتيش، مما قاد إلى التساؤل: "هل حقيقة أن الأرض لم تعد تعتبر مركز الكون، بل كوكب عادي يدور في فلك الشمس، لا تنطوي على انتقاص من دور الإنسان".
كذلك فإن أبحاث البيولوجيا، لا سيما أبحاث البيولوجيا العصبية neurobiology تثير تساؤلات جديدة حول السمات التي تمِّيز النوع البشري الحديث (الإنسان العاقل) Homo sapiens عن باقي الكائنات الحية.
إلا أن ما نوجِّهه لأنفسنا من تساؤلات حول وضعيتنا لم يقف قط حائلا دون سعينا المستمر إلى إدراك المعرفة. بل على النقيض من ذلك، فمنذ، البداية نجاهد لتشكيل العالم بما يتواءم واحتياجاتنا، من خلال محاربتنا للجوع والمرض وغير ذلك من ضروب الملمات. ولن نتوقف أبدًا في سعينا هذا .
لقد كان التغيّر الحادث في المجتمع على ضوء التقدم العلمي المحرز هو تبدُّل في النظرة إلى الأمور، رافقه -بالذات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية -تزايد الوعي العالمي بمدى إمكانية كون التقدم متضارب النتائج: ففي حين أنه يمثل، من دون شك، أحد عوامل تحقيق رفاهية الإنسان وتحرره من قيود الطبيعة، إلا أنه في عصرنا هذا يعتبر أيضا أداة محتملة لدمار الذات.
وانطلاقا من هذه الخلفية، فإن الأخلاقيات تحثّنا على أن نكون في حالة من التيقظ الدائم، عملا على ضمان الإسهام الإيجابي للعلم والتقانة في الرفاهية العامة والتقدم الاجتماعي والديموقراطي.
وفي غياب مثل هذا التيقظ للجوانب الأخلاقية، فإن عدم ثقة الجمهور تجاه الابتكارات العلمية والتقنية قد يشتد على نحو يشجع نشوء حركات سياسية ودينية تجعل نبذ العصرانية، باعتبارها رمزًا للعالم الذي حاق به الفساد، مسألة عقائدية.
عندئذ، فإن الخوف -وهو الرفيق الأوثق ملازمة للبشرية-سيقود المجتمعات إلى حالة من التوتر (Bedjaoui, 1995)، وفوق ذلك كله، سيحول دون قيام أواصر التكافل الدولي التي تشكل أساس السلم والرفاهية في العالم.
إن أخلاقيات العلم، باعتبارها سيرورة لإمعان التفكير في عواقب التقدم، تقتدى بأسلوب ينطوي على مساءلة المجتمع الدولي، ومن ثم المنظمات الدولية الرائدة، ومن بينها اليونسكو.
والواقع، إن ثلاثية التربية والعلم والثقافة التي تشكل أساس عمل اليونسكو، إنما ترتبط تمامًا بهذا التساؤل الأخلاقي الهام: ما الذي يتعين على البشرية القيام به، سواء بشكل فردي أو جماعي، حتى تتمكن من مجابهة تحديات العلم والتقانة؟
لقد أصبح العالم متسما بالتميّع وعدم الاستقرار، كما غدا مستقبله غامضا. ولا يعود ذلك إلى تسارع النمو السكاني فحسب، بل أيضا إلى تزايد مخاطر التقانة. ومن ثم، تبرز الحاجة إلى إيجاد إطار مرجعي -وبمعنى آخر نظم أخلاقية-تتوافق مع ما بلغه المجتمع في عصرنا هذا من وعي بمسؤولياته تجاه الأجيال القادمة.
وكون "ما يحدُث في الغد هو نتاج ما نقرره اليوم" يحثّنا على الإقدام الآن، أكثر من أي وقت مضى، على تبني أخلاقيات تقوم على الشعور بالمسؤولية.
وفي حين تخص هذه المسؤولية كل رجل وامرأة إلا أنها تخص العلماء أيضا، إذ تشكل اكتشافاتهم أساس المستجدات المُحدِثة للتغيير في حياتنا. فلقد ولى الزمان الذي كان يتيسر فيه رسم حدود واضحة بين العلم والتقانة، وبين الأبحاث وتطبيقاتها. وكما يشير <K.G.M. مينون>، لم يعد العلم نشاطا قائما بذاته يُنجز على هوامش المجتمع، بل يتداخل على نحو وثيق مع الطب والصناعة والزراعة وغير ذلك من قطاعات الإنتاج، ومع أداء الهيئات الحكومية لعملها والنشاط القائم فيما بينها.
ويتم ذلك بكيفية وبسِعة تجعلان العلم يتخلل المجتمع ويؤثر فيه ككل. ومن ثم، فإن أسطورة أستاذ العلم القابع في برجه العاجي، قد عفا عليها الزمان. وفي ظل هذه الظروف يتعين طرح سؤالين رئيسيين هما:
– ما المسؤوليات الاجتماعية الخاصة المناطة بالعلماء؟
– هل يمكن وضع تصور بمخطط أخلاقي يكفل المواءمة بين التقدم التقني وتقدم الجنس البشري؟
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]