الرياضيات والهندسة

فلفسة لايبنتز : انسجام مُرسّخ أصلاً

2000 الرياضيات والشكل الأمثل

ستيفان هيلدبرانت و انتوني ترومبا

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

الرياضيات والهندسة الهندسة

كان . W.G>لايبنتز< أحد أكثر الناس نفوذا في عصر الباروك. وهو دبلوماسي وفيلسوف رياضياتي وعلامةٌ شامل. وقد بسط أفكاره الفلسفية في مقالات صدرت عام 1710 بعنوان:

Essais de Theodicee sur la bonte de Dieu, la liberte de l’homme et l’origine du mal.

"مقالات اللاهوتية، أو الدينيات" حول فضل الإله وكرمه وحرية الإنسان وأصل الشر". وفي تلك المقالات، عرض أفضل جميع العوالم الممكنة، وقد توفر لهذه الفلسفة، التي كانت شائعة في أوساط المثقفين خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، العديد من المؤيدين. وقد يكون أقواهم نفوذا الفيلسوف الألماني .Ch>وولف (1754 -1679).  Wolff <ولا ريب في أن موﭘيرتوي تأثر بأفكار لايبنتز، بيد أن آراءه الفلسفية الأساسية كانت مغايرة إلى حد بعيد لآراء العلامة الجهبذ لايبنتز.

لننظر في بعض أفكار لايبنتز. لقد شغل نفسه في ثيوديسيته بدراسة كيف يمكن أن تنسجم فرضية وجود خالق قدير عليم نافع بغير حدود مع عدم كمال خلقه.

وبقدر كبير من التبسيط، بوسعنا شرح نظرية لايبنتز على النحو التالي: إن الإله لا يتدخل في شؤون الكون كما يفعل صانع ساعات غير بارع لا بد له من ضبط عقارب ساعاته من وقت لآخر. وعلى النقيض من ذلك، فقد خلق الإله الكون بانسجام مرسَّخ أصلاً. وكصانع ساعات ماهر يسهر على إتقان مهنته، فقد وفق الإله بين طبيعة كل جزء منفرد من الكون السرمديّ وبين طبيعة الأجزاء الأخرى كلها. لذا فإن الأجزاء جميعها تحظى بانسجام أبدي كامل فيما بينها. وهذا وحده جدير بالإله، الأكثر براعة من كل ما عداه والأقدر ممن هم سواه.

ويرى لايبنتز أن الإله هو تلك الذات التي تمتلك جميع الصفات بأعلى درجة يمكن أن تتعايش فيها هذه الصفات. وهذا الشرط ضروري لأن بعض الصفات، مثل القدسية والجبروت، لا يمكن أن تتعايش جملة: فقدسية الإله تقيِّد جبروته الذي لا ينسجم مع قدسيته التي تنزهه عن فعل الشر الذي يمكن للإله أن يمارسه من خلال جبروته. وإذا كان الإله يدرك جيدا كل العوالم الممكنة، فلن يريد، ومن ثم لن يخلق، إلا الفضلى بينها: أفضل العوالم الممكنة جميعها.

وهكذا فإن وجود هذا العالَم كأفضل العوالم الممكنة هو نتيجة لوجود إله واحد. ومن ثم فإن أي عالَمٍ آخر لا بدَ أن يكون أقل كمالا من عالمنا؛ بيد أن وجود شرور كثيرة أمر لا مجال لإنكاره، فالخطيئة والشر موجودان فعلا.

  

وفضلا على ذلك، فإن لايبنتز يبرهن على أنه يستحيل وجود عالم خال من الخطيئة والشر.

لقد خلق أفضل كون ممكن بحيث يوجد انسجام مرسخ أصلاً بين الحرية والضرورة، بين نعمة الخالق ومملكة الطبيعة، وكون الخالق مهندس الكون وسيده هما أمران منسجمان تماما. وقد كان لايبنتز يدرك تماما أن هذا العالم، الذي هو أفضل اختيار بين ما هو ممكن، قد يكون أسوأ بكثير مما قد نطمح إليه؛ لكن سوء فهم الناس لآراء لايبنتز جعلهم يلخصون آراءه في فكرة مغرقةٍ في البساطة مفادها أن كل ما هو موجود هو جيد.

إذا كنت لا تشعر بأن عالمنا مخلوق في هيئة جيدة جدا، فإنك بهذا تتفق في الرأي مع عدة معاصرين للايبنتز، ومن بينهم طبعا ڤولتير، الفيلسوف الفرنسي الذي وجه عام 1758 تهكُّما لاذعا لفلسفة لايبنتز في كتابه بعنوان كانْديِدْ، أو التفاؤل Candide, ou l’Optimisme. وقد لاقى الكتاب رواجا واسعا وفوريا في أوروبا كلها. حتى إنه أعيدت طباعته 42 مرة خلال 20 سنة. وكانت الشخصيات الرئيسية في هذا الكتاب الفيلسوف ﭘانْكلُوسْ Pangloss معلِّم البارونة الشابة كونِكونْد  Cunegonde، التي تقيم في قلعة البارون ثنْدَر-تِنْ- تْرُونْك Thunder- ten- tronckh  في مقاطعة وستفاليا  Westphalia، وتلميذه المخلص كانديد  Candide، وهو ولدٌ غير شرعي لهذه العائلة النبيلة. ويقوم هؤلاء الأفراد الثلاثة ببعض المغامرات المروِّعة. لكن لنعُّد إلى ما كتبه ڤولتير:

كان ﭘانكلوس يعلّم الكونيات (علم الكون) اللاهوتية الميتافيزيائيةmetaphysico-theologico- cosmolonicology .  وقد أثبت على نحو لا لبس فيه أنه لا يوجد أثر من دون سبب، وأنه في هذا العالم، الذي أحسن العوالم الممكنة جميعا، كان البلد الذي يخضع لسلطة البارون أجمل من كل البلدان الأخرى قاطبة، كما كانت مكانة البارونة أسمى من مكانة جميع من سواها من البارونات الأخريات.

وقد كان ﭘانكلوس يقول: "لقد تم إثبات أن الأشياء لا يمكن أن تكون مختلفة عما هي عليه، ذلك أنه لما كان كل شيء قد خلق لهدف ما، فإن كل شيء قد خلق كي يحقق الهدف المرجو منه على أحسن وجه. لاحظ أن أنوفنا قد خلقت لتحمل النظارات؛ لذا يوجد لدينا نظارات؛ وكان يراد من السيقان أن تحاط بسراويل، لذا فإننا نرتديها؛ وكان يبتغى من الأحجار النحت وبناء البيوت، ولهذا السبب يملك سيدي أجمل بيت؛ لأن أعظم بارون في وستفاليا يجب أن يملك أنبل مقر. ولما كانت الخنازير قد خلقت لتؤكل، فإننا نأكل لحم الخنزير طوال العام. ويترتب على هذا أن أولئك الذين يؤكدون أن كل شيء على ما يرام يقولون كلاما سخيفا، إذ إنه يتعين عليهم القول إن كل شيء لا ينجم عنه إلا الخير".

بيد أن الحوادث التي تجري بعد ذلك لا تعزز ثقتنا بتأكيدات ﭘانكلوس هذه، كما هو متوقع، فقد طرد كانديد من القلعة عندما أرادت كونكوند أن تختبر معه التفاعل بين السبب والأثر، والتحق بعد ذلك بالجيش البلغاري حيث نجا من الفظائع التي حدثت في معركة دارت بين البلغاريين والأباريين Abars (البروسيين والفرنسيين). 

إن أولئك الذين لم يسبق لهم رؤية جيشين مجهزين جيدا ومتوجهين إلى ساح الوغى، لا يملكون فكرة عن جمال العرض العسكري وروعته. فالأبواق والنايات والمزامير ورمايات المدافع تولد انسجاما لا يمكن لجهنم نفسها أن تنافسه. وقد أباد القصف المدفعي التمهيدي قرابة ستة آلاف رجل من كل جانب. أما إطلاق البنادق الذي تلا ذلك فإنه خلّص أفضل العوالم هذا من زهاء تسعة إلى عشرة آلاف وغد كانوا يعيشون على سطحه. وأخيرا وفرت الحراب المثبتة في رؤوس البنادق سببا كافيا للقضاء على عدة آلاف آخرين. وقد بلغت حصيلة الإصابات نحو ثلاثين ألفا. أما كانديد فصار يرتجف كفيلسوف. وخبأ نفسه بأحسن طريقة ممكنة خلال هذه المذبحة البطولية.

    وحين انتهت المعركة، وبدأ الملكان المتنافسان بالاحتفال بانتصارهما بتسبيحة الشكر في معسكريهما، قرر كانديد البحث عن مكان آخر يتابع فيه تفكيره في السبب والأثر. لذا شق طريقه بين أكوام الجثث والجرحى المشرفين على الموت، ليبلغ قرية مجاورة في الجانب الأباري من الحدود، لكنه لم يجد هناك أكثر من حطام يعلوه الدخان، لأن البلغاريين كانوا أحرقوا المنطقة من أساسها طبقا لما نص عليه القانون الدولي.

وتتابعت الكوارث. فقد دمِّرت قلعة ثندر- تن- ترونك، وقتل سكانها أو طردوا منها. أما كونكوند فقد انتهت إلى امرأة سهلة المنال في مدينة لشبونة، التي وصل إليها في الوقت المناسب تماماً كانديد وﭘانكلوس بعد أن تحطمت السفينة التي كانت تقلهما ليعانوا الهزة الأرضية العنيفة التي حدثت في 1/10/1755. وهناك قضى أكثر من ثلاثين ألف رجل وامرأة وطفل نحبهم تحت الأنقاض.

وفي اليوم التالي، بينما كان كانديد وﭘانكلوس يزحفان بين الأنقاض، عثرا على شيء يقتاتان به. وقد قدم لهما بعض المواطنين، الذين كان كانديد وﭘانكلوس قد ساعداهم، عشاءً جيدا مثلما يقدم عادة بعد مثل هذه الكوارث. وبالطبع فقد كانت مناسبة الوجبة حزينة. وكان الضيوف يبكون وهم يأكلون؛ لكن ﭘانكلوس كان يواسيهم بالتأكيد لهم أن الأمور لا يمكن أن تسير على نحو آخر، إذ قال:

"كل هذا إظهار لصحة الأشياء، ذلك أنه إذا وجد بركان في لشبونة، فلا يمكن أن يكون موجودا في أي مكان آخر، لأنه يستحيل ألا تكون الأشياء إلا حيث هي، إذ إن كل شيء معد ليكون على أحسن حال".

وفي عام 1762، أي بعد مرور ثلاث سنوات على ظهور كتاب كانديد، أُدرج هذا الكتاب من قبل السلطات البابوية في قائمة الممنوعات. لكن ڤولتير كان اتخذ جانب الحيطة والحذر، إذ كان نشره تحت اسم مستعار. وفيما كانت أوروبا كلها تضحك، كان ينكر بإصرار أنه هو المؤلف.

ومما يجدر ذكره أن مبدأ الفعل الأصغر لاقى، في بداية الأمر على الأقل، المصير نفسه الذي لاقاه سلفه الفلسفي. وتشابه الفترة التي تلت تقديم المبدأ مأساة كوميدية tragicomedy كاملة أطلق ڤولتير حولها تعليقاته الكلامية اللاذعة، ولكنها كانت موجهة هذه المرة ضد موﭘيرتوي الذي انعكست نتائجها عليه على نحو مأساوي. وقد وفرت هذه التعليقات تسلية رائعة لأوروبا. بيد أننا قبل التوجه إلى هذا الجزء من قصتنا فإننا نحتاج إلى أن نشرح بعبارات عامة الرياضيات التي بني عليها مبدأ الفعل الأصغر.

 

بداية حسبان التغيرات

في الثلث الأخير من القرن السابع عشر، طرأ تطور هام على علم الرياضيات، إذ ابتكر نيوتن ولايبنتز، كل منهما مستقلا عن الآخر، حسبان الصغائر  infinitesimal calculus، الذي يمثل الأساس الرياضياتي الذي أرسي عليه العلم الحديث. وبعد توفر هذه الأداء الجديدة، جرى بسرعة تطوير موضوع جديد آخر مستند إلى حسبان الصغائر سمِّي فيما بعد حسبان التغيرات calculus of variations.  وكان المؤسسون الأوائل لهذا الحقل الجديد ثلاثة من العلماء السويسريين الذائعي الصيت، وجميعهم من سكان مدينة بال، وهم: الأخوان يوهان وجاكوب برنولّي وتلميذ الأول .L>أُولِرْ < Euler الذي أصبح فيما بعد أشهر عالم رياضيات في القرن الثامن عشر.

وترتبط أهداف هذا الموضوع الرياضياتي الجديد ارتباطا وثيقا بالأفكار الفلسفية التي شرحناها قبل قليل. وتتلخص هذه الأهداف في التوصل إلى شرح رياضياتي للأشكال المثلى optimal  وفي تطوير التقنيات الرياضياتية الضرورية لتعيينها.

من الواضح أن الرياضياتيين يهتمون بمثل هذه المسائل. ففي حياتنا اليومية، علينا أن نجيب بانتظام عن أسئلة من النمط التالي: أي الحالات هي "الأحسن" أو "الأسوأ"؟ أي الأشياء يتمتع بخاصة معينة "أعلى" أو "أخفض" درجة؟ ما الاستراتيجية "المثلى" لبلوغ أكبر قدر ممكن من المتعة أو النجاح أو الربح، أو لمعاناة أقل قدر ممكن من القلق أو الإخفاق أو الخسارة؟ ما الشكل الذي يمكن تصميمه لمركبة ذات حجم داخلي محدد سلفا، بحيث تكون مقاومتها للهواء أقل ما يمكن؟ ما الشكل الذي يجب أن يصمم لجسم سفينة كي تبحر بأسرع ما يمكن؟ ما الشكل الذي يجب أن يشيَّد وفقه بيت ذو حجم داخلي محدد سلفا كي يكون لسطحه الخارجي أقل مساحة ممكنة، وذلك كي نضمن أقل قدر ممكن من تسرب الحرارة إلى الخارج؟ (الجواب عن هذا السؤال الأخير يمكن أن يخفض قيمة فاتورة مصروف بيتك من وقود التدفئة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن شعوب الأسكيمو عرفت الجواب منذ عهد بعيد جدا، إذ وجدت أن الشكل الأمثل للبيوت هو شكل نصف كرة).

وقد انكب على تطوير حسبان التغيرات كل من أولر والأخوان برنولي وعالم الرياضيات الجهبذ . L.J> لاكرانج< ، وكان همهم حل مسائل من هذا القيبل، ولكن بطريقة منهجية. هذا ولن نواجه صعوبات تذكر في فهم الفكرة الأساسية للنظرية الرياضياتية لهذا الموضوع. 

لنفترض أنك موجود في منطقة جبلية في الظلام، وأنك تريد تحديد مواقع الذُّرا (القمم) في هذه المنطقة مع أنك لست مزودا إلا بمنبع ضوء صغير وميزان تسوية مائي water lev-el ترى ماذا ستفعل في هذه الحالة؟ يمكنك التجول واستخدام هذا الميزان محاولا تحديد مواقع جميع الأمكنة التي تكون الأرض أفقية، أي التي يكون مستويها الماس أفقيا. فإذا كانت السلسلة الجبلية قديمة جدا من الناحية الجيولوجية. بحيث يكون سطح الأرض أملس وغير ومليءٍ بالصخور والنتوءات، فإنك تستطيع، من حيث المبدأ، العثور على جميع الذرا بهذه الطريقة. بيد أنه يمكنك أن تجد نقاطا أخرى ذات مستويات مماسة أفقية كالشعاب والحفر يمكن أن تتجاوزها جميعا في طريقك إلى الذروة. وفي التطبيق العملي، لا يسلك أحد مثل هذا المسلك، لكن هذه الاعتبارات تبين كيف يمكنك من حيث المبدأ حل المسألة بتطبيق فكرة المستوى المماس الأفقي. وهذه هي الطريقة التي يحدد فيها الرياضياتي نقاط القيم العظمى المحلية (النسبية) ونقاط القيم الصغرى المحلية (النسبية). وذلك بردِّه أولا الأسئلة عن الأفضل والأسوأ، وعن القيم العظمى والقيم الصغرى. إلى سؤال هندسي حول إيجاد الذرا وقيعان الحفر في سلسلة جبال أنشئت رياضياتيا(1).

بعد ذلك يطبق الرياضياتي استراتيجية (كتلك التي شرحناها) لتركيز الانتباه في عدد قليل من النقاط يشتبه في أنها نقاط قيم عظمى (ذرا) أو نقاط قيم صغرى (قيعان). ويشبه هذا الإجراء ما يقوم به المحقق الذي يستعمل كل الأدلة لتقليل عدد المشتبه فيهم في ارتكاب جريمة. ويشكل الرياضياتي نظاما من المعادلات التفاضلية تدعى معادلات أولر- لاكرانج Euler-Lagrange  يجب أن تحققها الأشياء المثلى التي يجري البحث عنها، ثم يحاول حل ذلك النظام. إن إيجاد الحل يكون في العادة أمرا صعبا. لكننا لن ندخل هنا في تلك التفصيلات التقنية.

 

 

 

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى