قصة مداواة الحسين بن سينا لمرض الأمير
1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول
صبري الدمرداش
KFAS
الحسين بن سينا مرض الأمير التاريخ المخطوطات والكتب النادرة
في تلك الأيام انتشرت الأمراض بين الناس في بُخارى واستشرت حتى دخلت قصور علية القوم من الأمراء والأغنياء.
وكان من بين المرضى الأمير نفسه، نوح بن منصور، حيث كان يشكو من قرحة في المعدة ومن التهاب القولون.
ولما يئس طبيباه من قدرتهما على شفائه لم يجدا مفراً من نصح الأمير باستشارة الطبيب الصغير أبي عليّ، فعلاجاته مستحدثة لا عهد لأحد بها.
فأرسل الأمير في طلب ابن واليه علي بُخارى ليعالجه، ودُهش أبو علي وقال لأستاذيه: كيف أعالج أميراً أنتما طبيباه وكلاكما أستاذٌ لي؟!
إن أذنتما لي أشرت له بعلاج تداويانه به ويكون شفاؤه بفضلكما بعد الله سبحانه وتعالى.
فضحك المسيِّب قائلاً: يا أبا علي، صرت الأن من العلم بالطب في مكانةٍ رفيعة، ونحن نعرف تواضعك وأنك تُنكر احتكار العلماء للعلم. لكنني وصاحب لن نُحرمك فضل علاج الأمير.
فحص أبو علي الأمير وأدرك علَّته وعرف دواءه، كما استأذنه في أن يلزم نظاما غذائيا خاصاً مع الدواء.
واستسلم الأمير لطبيبه الفتى، محروما مما لذ له وطاب، وما هي إلا أيام حتى أخذت آلام معدته وأمعائه تخف وتزول حتى شفي تماما.
ما المكافأة؟ من اليوم أنت يا أبا علي بين أطبائي واحد منهم. هكذا كان جزاءُ الطبيب الفتى من الأمير.
بل زاد الأمير: نجحت في شفائي فتمنَّ عليَّ واطلب ما تشاء من المال. ولم يطلب أبو علي مالاً وإنما طلب ما هو أغلى وأثمن.
ماذا طلب يا تُرى؟ – طلب القراءة. القراءة! نعم – (إن مكافأتي يا مولاي هي أن تسمح لي بقراءة ما في مكتبتك من كتبٍ فقد سمعت بضخامتها وتنوعها) . وهذا هو مطلب أبي علي.
وصحب الأمير بنفسه طبيبه إلى مكتبة قصره. وكانت مكتبةً عامره بها ثلاثون ألف كتاب، ليس بينها واحد مكرر النسخة، وليس بينها إلا ما هو مرجعٌ فريدٌ في ذاته.
ووضع أبو علي لنفسه نظاما يغطي ليله ونهاره لقراءة ما يقع عليه اختياره من نفائس الكتب في المكتبة وفي قصر أبيه.
وحين يعسُر عليه فهم مسألة من مسائل العلم يخلو بنفسه للصلاة ويبتهل للعليم الخبير أن يُيسِّر له فهم ما شق عليه فهمه. ويظل ساهراً يقرأ ويفكر حتى يغلبه النوم، والسِّراج بجانبه مضاء.
كتابٌ في يد دلَّال!!
قرأ أبو علي كتاب (ما وراء الطبيعة) لأرسطو مرات عديدةً بلغت الأربعين حتى حفظه.
ولكنه على دقة فهمه وحدة ذكائه عجز عن أن يفهم ما فيه، بل وعجز عن فهم غرض أرسطو منه، فيئس من هذا الكتاب بل ومن نفسه واهتزت ثقته بعبقريته.
وذات يوم، والوقت عصراً، كان أبو علي بحي الورَّاقين في بُخارى، ومرَّ بدلَّال كتبٍ ينادي على مُجلَّدٍ في يده يعرضه للبيع.
واعترض الدلاَّل طريق أبي علي ملحاً عليه أن يشتري الكتاب بثمن بخس، دراهم معدودات ولن يندم.
وأشفق أبو علي على صاحب الكتاب- الذي لم يكن ليفرِّط فيه لولا حاجته إلى ثمنه – ونقد الدلاَّل دراهمَ ثلاثة.
وفي حديقة البيت، قصر أبيه، وتحت خميلة مزدهرة في يوم صيف نظر أبو علي في الكتاب الذي فُرض عليه فرضاً .
وما لبث أن فتح فمه شاهقاً بدهشةٍ وفرح. وهبَّ واقفاً ثم جلس. فالكتاب لفيلسوف زمانه ونابغة عصره وأوانه الفارابي. والكتاب في أغراض كتاب ما وراء الطبيعة لأرسطو.
ولم ينم أبو علي إلى الصباح. عكف ليلته على الكتاب، ووجد نفسه يفهم ما حفظه حرفاً بحرف، وكان سعيدا بشرح الفارابي له وحسن كشفه لأغراضه ومراميه.
وإذ أشرقت الشمس غادر أبو علي صحن مسجد بُخارى، إثر انتهاء صلاة الفجر، وتصدَّق بمالً كثير من ماله الخاص على فقراء بُخارى شاكراً الله على نعمته إذ يسَّر له فهم ما لم يكن يفهم.. وهمس لنفسه: صدق الله العظيم، ففوق كل ذي علم عليم.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]