مجتمع السوق من منظور تاريخي
2014 مجتمع السوق
سبايز بوتشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية
يرقى وجود الأسواق في المجتمعات الإنسانية إلى آلاف السنين، وهي قديمة قدم الإغريق على أقلّ تقدير. ومع ذلك فأن "مجتمع السوق" من التطوّرات الحديثة العهد، فهو لهُ الآن سمات فريدة تميّزه عن الأشكال السابقة من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي. في هذا السياق نشير إلى أنّ الأسواق، قبل صعود الرأسمالية، كانت مجرّد "سمة ثانوية" (Accessory Feature) من سمات الحياة (Polanyi 2001 [1944], p. 70)، ولم تكن لها الأهمية ذاتها في حياة الناس اليومية للأن هؤلاء كانوا ينتجون بأنفسهم معظم ما كانوا بحاجة إليه للبقاء. وقد عرفت طبيعة العمليّات الاقتصادية في المجتمعات الإقطاعية التقليدية تحوّلات تدريجية ولكنها على قدر من الأهمية، أدّت إلى نظام إنتاج رأسمالي. الجدير بالذكر أنّ التغيرات الاقتصادية التي شكّلت الرأسمالية لم تكن بمعزل عن تغيّرات ثقافية وسياسية أشمل، كصعود أساليب البحث الفكري وأشكال الحكم التي عزّزت السياق الاجتماعي الذي تطوّر فيه الاقتصاد الرأسمالي الجديد.
سنبدأ نقاشنا بالتطرّق إلى طبيعة المجتمع ما قبل الرأسمالي في إنجلترا، وسماته، وإلى مهد الرأسمالية، وإلى "مجتمع السوق" الحديث الأول. كان تنظيم الحياة الإقطاعية واستمراريتها يتمّان عن طريق ترتيبات مختلفة لإنتاج المواد التي يحتاجها الناس، وتوزيعها واستهلاكها. وكان دور الأسواق هامشياً في هذه العملية بالنسبة إلى معظم الأشخاص الذين كانوا يعملون بشكل رئيسي في الإنتاج الزراعي. فقد كانوا فقراء مادياً، يعيشون حياة الكفاف في منازل كانت تشكّل الوحدات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية في المجتمع. وفي ظلّ النظام الإقطاعي، كانت أحجام المنازل تختلف بحسب ثروة ساكنيها، إلّا أنّها كانت المكان الذي ينتج فيه الناس ضروريات الحياة ويستهلكونها، بالإضافة إلى تربية أطفالهم وتهيئتهم للاندماج في المجتمع.
عمليّات الإنتاج والاستهلاك والتكاثر والتنشئة الاجتماعية كانت تشكّل إلى حدّ بعيد جزءاً لا يتجزأ من المنازل ولم تكن تعتمد على الأسواق بالطريقة التي هي عليها الآن في الاقتصادات الرأسمالية. ولكن حتّى بنية الأسواق نفسها كانت مختلفة في المجتمعات الإقطاعية. ففي حالات التبادل، كانت العمليات تتمّ غالباً في أسواق محلية أو مناطقية، قريبة من منازل الناس بحيث يكون من السهل بالنسبة إليهم أخذ الكميات الفائضة أو التي لا يحتاجونها. أمّا الأهمّ من ذلك فهو أنّ السوق كان يعمل وفقاً لقواعد واضحة ومفهومة، الهدف منها الحماية من المضاربة. كان فبيع السلع كان يتمّ على أساس "الثمن العادل"، والشراء كان يتم بهدف إعادة البيع بربح ممنوعاً في الأسواق.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الترتيبات استمرّت في بعض الأسواق في بدايات الرأسمالية، وقد أطلق عليها إدوارد بالمر تومبسون (Edward Palmer Thompson) (1971) اسم "الاقتصاد الأخلاقي" (Moral Economy). أي أنّ تنظيم الصفقات كان يتمّ من منطلق أخلاقي وليس بحسب الحاجات التجارية – من الأمثلة على ذلك، الاهتمام بضمان معقولية الأسعار بالنسبة إلى المُشترين بدلاً من ربحيّة الباعة. وقد تميّز التحوّل إلى الرأسمالية بتغيّرات بارزة في هذه التقاليد وفي الأوضاع المادية للحياة اليومية، حيث ظهرت مؤسسات اقتصادية جديدة وتحوّل دور المؤسسات التي كانت قائمة. كما أنّ التغيّرات الملحوظة التي طرأت على علاقات الملكية التقليدية وعلى القوانين التي تنظّم حقّ الانتفاع من الأرض، كانت من الخطوات الحاسمة في عملية الانتقال تلك.
في ظلّ النظام الإقطاعي، كان الفلاحون يتمتعون بحقّ زراعة الأراضي، وكان الانتفاع من الأراضي "المشاع" مكرّساً قانوناً وعرفاً. فاستخدم الفلّاحون تلك "المشاعات" (Common) ، إلى جانب أنشطتهم الإنتاجية الأخرى، لرعي المواشي أو جمع الحطب أو الأغذية. وفي هذا السياق فإنّ انهيار النظام الإقطاعي انطوى على عمليّة "تسييج" للأراضي باعتبارها أملاكاً خاصة ذات حقوق استخدام حصرية. تمّ ذلك من خلال إقامة السياجات وإصدار القوانين، الأمر الذي أدّى إلى خلاف كبير حول الحقوق العرفية. أمّا الجهود الأساسية الأولى لتسييج الأراضي فكانت في القرن السادس عشر، وقد ازداد زخمها في القرن الثامن عشر مع ارتفاع الطلب على الممتلكات التجارية بالتزامن مع بداية عصر التصنيع (Wood 1999).
عكس انهيار حقوق الانتفاع العرفية انهيار الهياكل التقليدية التي كان المجتمع الإقطاعي يقوم عليها، الأمر الذي أخلّ بطريقة حياة الناس. وقد أدّى التسييج إلى منافسة من أجل الوصول إلى الأرض وشجّع ملّاك الأراضي على تأجير أجزاء من ممتلكاتهم للمزارعين الذين وبدورهم شغّلوا بعضاً من الأشخاص الذين لم يعد بإمكانهم الوصول إلى الأرض لتأمين كفافهم. بذلك بات هؤلاء يحصلون على أجور للعمل في الأرض والمساهمة في إنتاج السلع الزراعية لبيعها في الأسواق. وقد مكّنتهم الأجور من شراء متطلّباتهم الأساسية. كانت تلك بداية ظهور علاقة اقتصادية جديدة تتمثّل في العمل المأجور.
كما شجّعت المنافسة ملّاك الأراضي على تحسين مزارعهم (Wood 1999)، وقد انطوى ذلك على تطبيق المبادئ العلمية على الممارسات الزراعية لزيادة الإنتاجية. ومع ازدياد حجم المحاصيل، ازدادت الكميات المخصصة للبيع. من جهة ثانية، شجّعت التحسينات على التخصص، إذ تحوّل الناس من زراعة معظم احتياجاتهم للاستهلاك المنزلي المباشر، إلى التخصص في إنتاج بضعة أنواع من المحاصيل فقط. أدّى ذلك إلى خفض نسبة الأشخاص الذين يرتزقون بالعمل في الأرض، ما دفع بالكثيرين إلى التوجّه نحو المراكز الحضرية الناشئة، أملاً بإيجاد فرص عمل في المعامل أو المناجم.
كان تنظيم القطاع الزراعي الإنجليزي التنافسي، بإنتاجه الموجّه للسوق عوضاً عن الإنتاج المباشر لتلبية الحاجات، يقوم على "أصحاب الأملاك" (Landlords)، والمزارعين المستأجرين الرأسماليين، و"العمّال المأجورين" (Wage Labor) (Brenner 1989, p. 294)، وهو ترتيب عزّز "انطلاقة" إنجلترا نحو النموّ الاقتصادي. فتوسيع الإنتاج في القطاع الزراعي كان الأساس لتوسيع صناعات صغيرة وتحويلية أخرى، وبالنتيجة توسيع عمليّة التصنيع بأسرها.
بفعل المنافسة، اكتسبت الثورة الصناعية زخماً مع اختراع المحرّك البخاري وتطوّره السريع. وكان نظام الحكم المتمثّل في منح الاحتكارات للمخترعين بموجب نظام براءات الاختراع، عنصراً مؤسساتياً مهماً في هذه العملية. إذ ساهمت الطاقة البخارية في حدوث تغييرات في صناعات أخرى، كان أبرزها صناعة الحديد، التي عزّزت بدورها تطوّرات صناعية أوسع نطاقاً في مجالي التصنيع والنقل. كما عزّزت بناء السكك الحديدية وإنشاء البنى التحتية، ما سهّل نموّ المدن بعيداً عن المناطق الساحلية. وسرعان ما ظهرت مدن صناعية كبيرة، وبحلول القرن التاسع عشر، أنشئت في قطاعي التعدين والصناعات التحويلية مصانع تقوم على التقنيات الآلية وتوظّف قوى عاملة كبيرة ومنظّمة.
لقد أدّى نظام المصنع المنتج للسلع المخصصة للبيع في الأسواق إلى الفصل النهائي بين المنزل والإنتاج. فالرأسماليون، مع ما يملكونه من مواد وأموال ومساحة، كانوا يشترون آلات ويضعونها في مصانع. وكانوا يوظّفون أشخاصاً للعمل أيّاماً طويلة على تصنيع السلع. هذا الإنتاج الكمي في مراحله الأولى، الذي ينظّمه الوقت عوضاً عن المواسم، زاد الكميات المعروضة من السلع وخفّض أسعارها بحيث باتت معقولة أكثر. وأمّنت هذه الترتيبات الأساس لأسلوب جديد متمحور حول السوق لتنظيم إنتاج حاجات الناس الماديّة وتوزيعها.
غير أنّ الطلب على اليد العاملة لم يكن مستقراً، ولم يكن كافياً حتّى لتأمين عمل لكلّ من هو بحاجة إليه. وقد أدّت تقلّبات الإنتاج بهدف الربح إلى ضغوطات من أجل قيام مؤسسات جديدة لتنظيم اليد العاملة وضبط ظروف العمل في المصانع. في هذا السياق، وبعد فترة طويلة من النقاش والخلاف، تمّت أخيراً الاستعاضة عن طريقة تحديد الأجور بحسب العادات والأعراف – "الاقتصاد الأخلاقي" – بإزالة الأشكال التقليدية لـ "إعانة الفقراء" (Poor Relief) وإنشاء سوق عمل وطني. وفرضت هذه التغييرات إلزامية تأمين مشاركة الناس في سوق العمل، إلّا أنّها كانت في المقابل تعني بأنّ مداخيلهم – وسيلتهم الوحيدة للبقاء على قيد الحياة – غير ثابتة وتعتمد على العرض والطلب في السوق. هذا الدمج للعمل في نظام السوق وإخضاعه لقوى اقتصادية عوضاً عن القوى الأخلاقية شكّل خطوة حاسمة في عملية إنشاء مجتمع السوق.
لم تقتصر آثار صعود الرأسمالية على إنجلترا وأوروبا دون غيرهما. فقد اجتذب الاقتصاد الرأسمالي، الذي أخذ يتّسم بطابع عالمي على نحو متزايد، غيرهما من المناطق أيضاً. غير أن هذه التجربة تفاوتت بين المناطق، واختلفت بين الاقتصادات الأوروبية وغير الأوروبية. وكان للاستعمار دور بارز في ذلك. فالدول الأوروبية استعمرت دولاً أخرى في آسيا وأفريقيا والمحيط الهادئ والأميركتين، ما مكّنها من استيراد مواد خام أساسيّة بشروط مؤاتية. كما أمّن لها الاستعمار منافذ لصادراتها، ما خفّف من وطأة المنافسة العالمية. فبريطانيا، على سبيل المثال، ساهمت في تدمير صناعة القطن التي كانت قائمة في الهند، ثمّ عملت على تصدير كميّات كبيرة من منسوجاتها القطنية إلى الهند في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر (Hobsbawm 1987).
يسلّط هذا المثل الضوء على أهميّة السلطة السياسية، ومن ضمنها الإكراه والعنف، في تشكيل مجتمعات السوق. وهي صورة بعيدة كلّ البعد عن النموذج المثالي للتجارة الحرّة والأفضليّة المقارنة التي كان يصوّرها علماء الاقتصاد في ذلك الوقت. لقد كان أثر الاستعمار شديداً بالفعل على تطوّر الرأسمالية خارج أوروبا وداخلها أيضاً. اقتصادات "المستعمر" (Settler) الرأسمالية، كأستراليا والولايات المتّحدة، أصبحت صناعية بسرعة نظراً لاستيراد كميات ضخمة من المعدّات الرأسمالية وأعداد كبيرة من العمّال، بالإضافة إلى القمع الوحشي للسكّان الأصليين واقتصاداتهم. أما غيرها من البلدان، كالهند مثلاً، فكانت غارقة في علاقة تبعيّة اقتصادية طوال ما يزيد عن القرن، أخضعها البريطانيّون في خلاله لضرائب باهظة وفوائد مرتفعة على القروض، وقمعوا استقلالها الاقتصادي.
تاريخياً، يمكن اعتبار صعود مجتمع السوق جزءاً من عمليّة تغيير فكري وثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي وديموغرافي معقّدة امتدّت من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. وغالباً ما يشير علماء الاجتماع إلى هذه المجموعة الأوسع من العمليّات على أنّها مرحلة صعود "الحداثة". ففي خلال تلك الفترة، تحوّلت إنجلترا من ثقافة دينية تقليدية تقوم على زراعة الفلّاحين في ظلّ نظام إقطاعي وجماعات صغيرة مكتفية ذاتياً، إلى مجتمع سوق صناعي وقوّة رأسمالية عالمية تسيطر على التجارة الدولية والتوسّع الاستعماري.
حدثت هذه التغيّرات الاقتصادية بالتزامن مع تطوّرات فكرية وسياسية أخرى على جانب من الأهمية. ذلك أنّ صعود الدولة القومية والأشكال الجديدة للتنظيم القانوني والسياسي، أدّت إلى التحوّل من الحق الإلهي للملوك إلى السيادة الشعبية. فالتكامل المتزايد للعمليات الاقتصادية ومركزيّة السلطة السياسية ساهما معاً في إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية وفكّكا روابط "المجتمع" التقليدي (Community)، الأمر الذي أفسح المجال أمام ظهور "المجتمع المدني" (Civil Society).
من العوامل الأساسية أيضاً، التحوّلات على مستوى الأفكار والثقافة، لا سيّما تراجع الدين وصعود العقل والعلم الذي اضطلع بدور حاسم في تعزيز التقدّم التكنولوجي وقامت عليه التطوّرات الاقتصادية. كما امتدّت أهميّتها لتشمل التحوّلات السياسية في ذلك الوقت، حيث تمّ القضاء على الهياكل والأفكار التقليدية التي كان يقوم عليها النظام الاقتصادي الإقطاعي القديم، لتظهر مكانها مؤسسات اجتماعية وأيديولوجيات وثقافات وأفكار جديدة، كان من شأنها تعزيز الاقتصاد الرأسمالي الناشئ وإتمامه.
أنّ صعود الرأسمالية انطوى على تحوّلات جذرية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية بحيث باتت الأسواق تحظى باهتمام أكبر، ما أفضى بالنتيجة إلى إنشاء مجتمع السوق. في هذا الكتاب، نبحث في طبيعة مجتمع السوق وحركيّته، وذلك من خلال تاريخه وممارسته، كما ومن خلال أكثر من منظور نظري يسعى لفهم الظواهر الاقتصادية في هذا النوع من المجتمعات.
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]