الفيزياء

مراحل اكتشاف وتطوّر “النظرية الذرية” بواسطة العلماء

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني

صبري الدمرداش

KFAS

النظرية الذرية تطور النظرية الذرية الفيزياء

نظرة إلى الماضي البعيد لنستقرأ ونستدل، نجد أن  كثيراً من النظريات والمكتشفات والمفاهيم والقوانين العلمية الكبرى لم تتم بشكل طفري، وإنما كانت هناك دائما محاولات على الطريق مهدته لمن نُسبت إليه النظرية في النهاية أو المكتشف أو المفهوم والقانون.

ونعرض فيما يلي لبعض الأمثلة الموضحة من ميادين أربعة: الفيزيقا، والكيمياء، والبيولوجيا، والجغرافيا .

1-من ميدان الفيزيقا :

• النظرية الذرية :

مرّ التصور لبنية المادة بفتراتٍ طويلة تناوله خلالها علماءٌ كثيرون وفلاسفة كما يتضح مما يلي:

يرجع العهد بالنظرية الذرية إلى فلاسفة الإغريق :

ففي عام 445 ق.م. كان الفيلسوف أناكساجوراس Anakagoras أول من اهتم بتكوين المادة في الكون. بينما أكد صديقه الفيلسوف بارمينيدس Paramenides أن الكون كله عبارة عن ذرة واحدة غير قابلة للإنقسام، وهو معنى كلمة الذرة في اللغة اليونانية .

وفي عام 430 ق.م جاء ليوسيبوس Leucippus ليقول إن المادة في الكون يجب أن تكون صلدة وأن تتحطم إلى ذرات صغيرة، وأنها تملأ الكون.

وتبعه تلميذه ديموكريتوس Democritus الذي عدَّل النظرية عام 390 ق.م.، وقال إن الذرات يجب أن تكون مختلفة الأنواع والأحجام وليست قابلة لمزيدٍ من الإنقسام .

 

وكانت النظرية الذرية تسير في طريقها الصحيح على هذا النحو، إلى أن تدخَّلت المعتقدات الفلسفية فيها لتفسدها.

فقد أكد أرسطو عام 340 ق.م . أن المادة في الكون تتكون من عناصر أربعة هي الماء والهواء والنار والأرض ، وهو تصور ساذج ما زال البعض يعتقد به حتى الآن!.

وحوالي عام 100 ق.م. حاول العالم الإيطالي ليوكريتوس Lucretius التصدي لهذا العبث والعودة إلى النظرية  القديمة لتركيب المادة في الكون من الذرات ولكن دون جدوى، حيث استمر تصور أرسطو قائماً طوال السنوات الطويلة التالية .

وفي الحضارة الإسلامية كان لفلاسفة المسلمين وعلمائهم كلامهم عن "الذرة" و "الجوهر الفرد".

ولكن ظل الحال على ما هو عليه من الاعتقاد بصحة تصور أرسطو لتكوين المادة في الكونحتى جاءت الحضارة الأوروبية فتقاطرت جهود علمائهم في هذا المجال :

 

ففي عام 1661 أكد روبرت بويل أن المادة في الكون تتكون من عناصر أخرى كثيرة، وكان ذلك أول تحدِّ خطيرٍ لتصور أرسطو .

ومن بعد بويل تتابع إسحق نيوتن الإنجليزي، وأنطوان لافوازييه الفرنسي، ولويس بروست الفرنسي، وإن كانت إسهاماتهم في هذا المجال لم تُتوَّج ببلورة نظرية محدَّدة ووافية .

وفي عام 1804 جاء جون دالتون الإنجليزي الذي أكد أن المركبات الكيميائية تتحد بنسب معينة عندما تتجمع الذرات معاً مكونة الجزيئات، وقدَّم دالتون أول محاولة لنظرية ذرية متكاملة وإن كانت خاطئة في بعض فروضها .

 

وجاء أفوجادرو ليصحِّح الخاطئ ويرقَّع النظرية الذرية لدالتون لتصبح – بعد الترقيع – النظرية الجزيئية لأفوجادرو .

وبين دالتون وأفوجادرو كان هناك جاي لوساك وبرزيليوس : الأول بقانونه للحجوم الغازية والثاني بفرضه. وكلاهما – القانون والفرض – متعارضان ونظرية دالتون فكان لا بد من التعديل والتطوير.

وفي عام 1871 قام مندلييف بوضع جدوله الدوري الشهير والذي يُصّنف فيه العناصر، والتي كان عددها آنذاك 60 عنصراً ، وفقا لأوزانها الذرية .

ومن بعد مندلييف أتى موزلي ليعدَّل في الجدول الدوري للعناصر ويطوِّره. وبلغة الفيزيقا فإن جدول مندلييف المعدل أصبح يمثل فقط العدد الكمي الرئيس – أي بُعد المدار عن النواة، وكذلك العدد السمتي – أي بيضاوية أو إهليجية المدار حول النواة.

وكان المعتقد حتى ذلك الوقت أن الذرة هي أصغر مكونات المادة وأنها لا تضم شيئاً داخلها، وأنها لا يمكن أن تنقسم. هكذا كان يتوهَّم العلماء .

 

ولكن بمجيء عام 1897 تمكن جوزيف طومسون من اكتشاف أول جسيم أساسي من مكونات الذرة وهو الإلكترون السالب .

وحدَّد طومسون بدقة كل من كتلته (9,1 × 10 قوة 31 بالسالب كيلو جرام)، وشحنته (1,6 × 10 قوة 19 بالسالب كولومب) .

وفي عام 1898 اكتشفت ماري كوري وزوجها بيير كوري جسيمات ألفا وبيتا التي تنطلق على هيئة إشعاعات من اليورانيوم الخام . وفي عام 1900 اكتشف بول فيلارد الفرنسي أشعة جاما في العناصر النشيطة إشعاعيا .

وقد استخدم آينشتاين هذه الاكتشافات الحديثة في تفسير الحركة البروانية عام 1905، حيث قال إنها نتيجة اصطدام الجسيمات بعضها ببعض داخل السوائل. كما قدَّم هو نفسه معادلته الشهيرة التي تربط بين المادة والطاقة (ط= ك. ع2) .

 

وفي عام 1911 قدَّم إرنست رذرفورد أول نموذج لتركيب الذرة، عبارة عن نواة ذات شحنة موجبة تحتوي على أغلب كتلة الذرة ، وحولها الكترونات سالبة .

وفي عام 1913 جاء نيلزبور الدانماركي ليضع نموذجاً جديداً لتركيب الذرة، أخذاً في الاعتبار كل من نظرية الكم لماكس بلانك الألماني ونموذج رذرفورد الإنجليزي. ونجح نموذجه الجديد في تفسير كثير من الظواهر مثل ظاهرة التحليل الطيفي للهيدروجين مستعيناً بالنظرية الكهرومغناطيسية الكلاسيكية.

ونتيجة لذلك حصل بورعلي على جائزة نوبل للفيزيقا عام 1922. والذرة كما صورها بور عبارة عن نواة من البروتونات الموجبة والنيوترنات المحايدة وحول النواة مستويات مختلفة لمدارات الألكترونات السالبة التي يجب أن يماثل عددها عدد البروتونات .

وقد أحدث هذا النموذج ثورة فيزيقية، حيث أدى إلى فهم أعمق لكل من الكهرباء والكيمياء كما أدى إلى كشف الطاقة النووية. لذا يعتبر عام 1913، الذي نشر فيه بور نموذجه، عاماً حاسماً في تاريخ الفيزيقا الذرية .

 

وفي عام 1914 اكتشف رذرفورد الجسيم الأساسي الثاني من مكونات الذرة وهو البروتون الموجب، وقدّر كتلته بمقدار كتلة الإلكترون 1836 مرة .

وفي عام 1932 اكتشف جيمس شادويك البريطاني الجسيم الأساسي الثالث في الذرة وهو النيوترون المحايد، وحدَّد كتلته بقدر كتلة الإلكترون 1838 مرة .

وباكتشاف الجسيمات الأساسية الثلاثة هذه، الإلكترون السالب والبروتون الموجب والنيوترون المحايد ، ظن العلماء للمرة الثانية أنهم توصلوا إلى نهاية المطاف، فهي في اعتقادهم اللبنة أو المادة الأساسية في الكون . ولكن ذلك كان إفراطاً منهم في التفاؤل.

فقد اكتشف زملاءهم فيما بعد أن هذه الجسيمات الأساسية تنقسم أيضاً، وان هناك جسيمات ثانوية حاملة للقوى أو للطاقة تربط بين الجسيمات الأساسية ولكنها لا تتأثر بها.

 

كما أن هناك جسيمات افتراضية من الممكن قياس تأثيراتها ولكن لم يتم الكشف عنها بعد . ووصل عدد الجسيمات المكتشفة حتى الآن حوالي 136 جسيماً من مكونات الذرة ، ويبدو أنها تنقسم إلى ما لا نهاية . بل اكتشف العلماء أن لكل جسيم نقيضاً مضاداً له تماماً، مساوياً له في الكتلة ومغايراً في الشحنة .

وتمضي سنوات والمسرح دائم التنقل حتى حطَّ الرحال في برلين عام 1938، حيث تمكن هاهن وستراسمان من كتابة صفحة جديدة ومتميزة في السجل الذري الرهيب.

لقد كشفا أن في نواة ذرة اليورانيوم، وهو مشع، يتم تفاعل ذوطاقة جبارة، فاتحين باب الأمل لإمكانية تحويل المادة إلى طاقة من خلالالتطبيق العملي لمعادلة آينشتاين المشار إليها والتي وضعها قبل ثُلث قرنٍ مضى.

 

وكانت كل الاكتشافات والجهود المتقدمة كفيلة بأن تمكن فرمى من إتمام التفاعل النووي المتسلسل.

ومن بعد فرمي جاء أوبنهايمر ليقود فريق العلماء في صنع أول قنبلة ذرية في التاريخ عام 1945 ، حيث أطلقت فيها – على هيروشيما ثم على نجازاكي – الطاقة الجبارة الخبيئة في ذرات اليورانيوم.

ولا تزال النظرية الذرية الحديثة أبعد ما تكون عنالصورة البسيطة السابقة لتركيب الذرة .

 

ففي عام 1925 أُدخل في النظرية مبدأ استبعاد باولي Pauli,  Exclusion Principle الذي وضعه العالم النمساوي وولفجانج باولي الحائز على جائزة نوبل للفيزيقا عام 1945 لبحوثه في الإنقسام النووي .

ويؤكد المبدأ في صيغته الفيزيقية ببساطة أنه لا يمكن لزوجين من الفيرمونات Fermions  وهي الجسيمات الأساسية داخل الذرة مثل الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات أن يتواجدا في نفس الحالة إذا كان لهما نفس الأعداد الكمية. فمثلاً لا يمكن لإلكترونين أن يكون لهما نفس العدد الكمي، وبالتالي لا يكون لهما نفس المكان ونفس السرعة حول نواة الذرة.

ومبدأ الاستبعاد هذا ينطبق فحسب على الجسيمات الأساسية في الذرة ومضاداتها، ولكنه لا ينطبق على الجسيمات الأخرى الحاملة للقوى أو الطاقة .

وفي عام 1927 أُدخل أيضاً في النظرية مبدأ عدم اليقين Uncertainity Principle لهايزنبرج الذي يؤكد استحالة تعيين موقع أي جسيم في الذرة وتحديد سرعته في الوقت نفسه .

كذلك أُضيف إلى النظرية الذرية كل ما تم اكتشافه من الجسيمات والقوى المؤثرة داخل قلب الذرة والجسيمات المضادة.

 

كما أخذت النظرية الذرية في اعتبارها كذلك حلاً من نظرية الكم لبلانك والنظرية النسبية الخاصة لآينشتاين. وكذلك كل القوانين الفيزيقية الأساسية مثل قوانين حفظ التشابه Parity، وقوانين حفظ التماثل Symmetry، وقوانين حفظ الطاقة Conservation  .

وظن العلماء للمرة الثالثة، أنهم قد توصلوا إلى الجسيمات الأولية التي تتشكل منها المادة وهي جسيمات الليبتون Leptons الخفيفة وجسيمات الكوارك quarks  الثقيلة : الأولى تكون الإلكترون، والثانية تكون كلٍ من البروتون والنيوترون .

ولكن سرعان ما تبخَّر ظنهم كذلك عندما اكتشف زملاءهم أن الجسيمات تتصرَّف على أنها إشعاعات والإشعارات يمكن أن تتجسد على هيئة جسيمات. فهل من الممكن أن تكون الإشعاعات هي المادة الأولية لبنية الذرة؟ لا أحد يعرف حتى الآن . إذن فلا بد من مواصلة المسيرة . وسيظل العلماء يواصلونها لعلهم يصلون! .

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى