نبذة تعريفية عن الصحابي “عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفِ بنِ عبدِ الحارثِ”
2001 موسوعة الكويت العلمية الجزء الثاني عشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
الصحابي عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث إسلاميات المخطوطات والكتب النادرة
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفِ بنِ عبدِ الحارثِ، أبو مُحَمَّدٍ الزهرِيُّ القُرَشِيُّ، صَحابِيٌّ جَليلٌ.
هو أَحَدُ الثَّمانِيَةِ السَّابِقينَ إلَى الإسْلامِ، وأَحَدُ العَشَرَةِ المُبَشَّرينَ بالجَنَّةِ، وأَحَدُ السِّتَّةِ أصحابِ الشُّورَى يومَ اخْتيارِ الخَليفَةِ بَعْدَ الفاروقِ، وأَحَدُ النَّفَرِ الّذينَ كانوا يُفْتونَ في المدينَةِ ورَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، حَيٌّ قائِمٌ بَيْنَ ظَهْرانِيِّ المُسْلِمينَ.
كانَ اسمُهُ في الجاهِلِيَّةِ عَبْدَ عَمْرو أو عَبْدَ الكَعْبَةِ، فلمَّا أَسْلَم دَعاهُ الرَّسولُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، عَبْدَ الرَّحْمَنِ. وُلِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ بَعْدَ عامِ الفيلِ بِعَشْرِ سنين. وأمُّه الشَّفَّاءُ بنتُ عَوْفٍ بنِ بعدِ الحارِثِ الزَّهْرِيَّةُ.
كانَ رَجُلاً طويلاً، حَسَنَ الوَجْهِ، رقيقَ البَشَـرَة، أَبْيَضَ مُشْـرَبًا حُمْرَةً، ضَخْمَ الكفَّيْنِ، غليظَ الأَصابِعِ أَعْسَرَ، أَعْرَجَ.
نَشَأَ عبدُ الرحمنِ، رَضِيَ اللهُ عنهُ، نَشْأَةً صافِيَةً. وكانَ رشيدًا عاقِلاً، سديدَ الرأْيِ، وكانَ لا يَأْبَه بِأَعْمالِ الجاهِلِيَّةِ وعاداتِها، فكانَ من الّذينَ حَرَّموا الخَمْرَ في الجاهِلِيَّةِ. وقَدْ استجابَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ لنِداءِ الإيمانِ مُنْذُ أَنْ لاحَتْ تباشيرُ الإسْلامِ في أَيَّامِهِ الأُولَى.
وقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ دخولِ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، دارَ الأَرْقَمِ المَخْزومِيِّ، وكانَ إسلامُهُ علَى يدِ الصَّحابِيِّ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ولَقِي عبدُ الرحمنِ من العذابِ في سبيلِ اللهِ ما لَقِيَهُ السّابقونَ الأَوَّلونَ، فَصَبَرَ واحْتَسَبَ وثَبَتَ وصَدَقَ ما عاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ.
ولمَّا أُذِنَ للرَّسولِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وأصحابِهِ بالهِجْرَةِ إلَى المدينَةِ كانَ في طليعَةِ المهاجرينَ الّذينَ هاجروا للهِ ورَسولِهِ.
ولَمَّا أَخَذَ الرسولُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، يُؤاخِي بينَ المهاجرينَ والأَنْصارِ، آخَى بينَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ وبَيْنَ سَعْدِ بن الرَّبيعِ الأَنْصارِيِّ، فجاءَ سَعْدٌ لِيَعْرِضَ علَى عَبْدِ الرّحمنِ أَنْ يُقاسِمَهُ مَالَه، فقالَ لَهُ سَعْد: «عِنْدي بُستانان، ولي امْرأَتَان، فانْظُر أيُّ بستانٍ أحبُّ إليكَ حتَّى أَخْرُجَ لَكَ عَنْه، وأَيُّ امْرَأَتَيَّ أَرضَى عِنْدَكَ حتَّى أُطَلِّقَها وتَنْتَهِي عدَّتُها لِتَتَزَوَّجَها».
فأَبَى عبدُ الرّحمنِ العَرْضَ وقالَ لِسَعْد: «بارَكَ اللهُ لَكَ في أَهْلِكَ ومالِكَ، ولكنْ دُلَّنِي على السُّوق»، فدَلَّه عَلَيْهِ فباعَ وابْتَاعْ حتَّى صارَ لَهُ مالٌ، ويَرْبَحُ ويَدَّخِرُ، وتَزَوَّجَ امْرأةً من الأنْصارِ بِوَزْنِ نَواةٍ مِنَ الذَّهَبِ. فقالَ له الرسولُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «أَوْلِمْ ولَوْ بِشَاةٍ».
كذَلِكَ شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، غَزْوَةَ بَدْرٍ، حَيْثُ جاهَدَ في حَقِّ اللهِ حَقَّ جِهادِهِ فأَرْدَى عَدُوَّ اللهِ عُمَيْرَ بنَ عُثمانَ بنِ كَعْبِ التَّيْمِيَّ.
وفي «غَزْوَةِ أُحُدِ» ثَبَتَ مَعَ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، حينَ فَرَّ المُنْهزِمونَ، وخَرَجَ من المَعْرَكَةِ وفيهِ بضعةٌ وعشرونَ جُرْحًا. كما شَهِدَ غَزْوَةَ الخَنْدَق، وبَيْعَةَ الرضوانِ، وسائِرَ المَشاهِدِ مَعَ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم.
ولما عَزَمُ الرَّسولُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ علَى غَزْوَةِ تَبُوك، وهي آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاها في حياتِهِ، كانَتْ الحاجَةُ إلَى المالِ لا تَقِلُّ عن الحاجَةِ إلَى الرِّجالِ. فأَمَرَ الرَّسولُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، أصحابَه بالصَّدَقَةِ والنَّفَقَةِ في سبيلِ اللهِ.
وكانَ في طَليعَةِ المُتَصَدِّقينَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوْف، فقَدْ تَصَدَّق بمِئَتَيْ أُوقِيَّةِ من الذَّهَبِ. وقَدْ قالَ لَهُ الرَّسولُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: هَلْ تَرَكْتَ لأَهْلِكَ شيئًا يا عَبْدَ الرَّحْمنِ؟
قالَ: نَعَمْ… تركتُ لهُم أَكْثَرَ مِمَّا أَنْفَقْتُ وأَطْيَبَ.
قال رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: كَمْ؟
قالَ: ما وَعَد اللهُ ورسولُه من الرِّزْقِ والخَيْرِ والأَجْرِ.
ومضَى الجَيْشانِ إلَى «تبوك». وهناكَ أَكْرَمَ اللهُ عبدَ الرحمنَ بنَ عَوْفٍ بما لَمْ يُكْرِمْ به أَحدًا من المُسْلِمينَ، فقَدْ دخلَ وقتُ الصَّلاةِ، ورسولُ اللهِ، صلواتُ اللهِ عليه غائِبٌ، فَأَمَّ المُسْلمينَ عبدُ الرَّحمن بنُ عَوْفٍ.
وما كادَتْ تَتِمُّ الرّكعةُ الأُولَى حتَّى لَحِقَ رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، بالمُصَلِّينَ، واقْتَدَى بعبدِ الرَّحْمنِ بنِ عوفٍ وصَلَّى خَلْفَهُ.
فهلْ هناكَ أَكْرَمُ كرامَةً وأَفْضَلُ فضْلاً مِنْ أَنْ يَغْدُوَ أَحدٌ إمامًا لِسَيِّدِ الخَلْقِ، وإمامِ الأَنْبياءِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الله؟!
ولمَّا تُوُفِّيَ الرَّسولُ، عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، جَعَلَ عبدُ الرّحمنِ بنُ عَوْفٍ يقومُ بِمَصالِحِ أُمَّهاتِ المُؤمِنين، فكانَ يَنْهَضُ بِحاجَاتِهِنَّ، فَيَخْرُجُ مَعَهُنَّ إذا خَرَجْنَ، ويَحُجُّ مَعَهُنَّ إذا حَجَجْنَ، ويَنْزِلُ بِهِنَّ في الأَماكِنِ الّتي تَسُرُّهُنَّ. وتلكَ من مَناقِبِ عبدِ الرّحمنِ بنِ عوفٍ، وثقةٌ من أُمَّهاتِ المُؤْمِنينَ بِهِ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَعْتَزَّ بها ويَفْخَرَ.
وقد بلغَ من بِرِّ عبدِ الرّحمنِ بنِ عوفٍ بالمسلمينَ وأُمَّهاتِ المُؤمنينَ، أَنَّه باعَ أَرْضًا لَه بأَرْبَعينَ أَلْفَ دينارٍ، فقَسَّمَها كُلَّها في بَنِي «زَهْرَة» أَهْلِ آمِنَةَ بنتِ وَهْبٍ أُمِّ الرَّسولِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وفقراءِ المسلمينَ والمُهاجِرينَ، وأَزْواجِ النَّبِيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. فَلَمَّا بَعَثَ إلَى أمِّ المؤمنينَ عائِشَةَ رِضْوانُ اللهِ عَلَيْها بما خَصَّها مِنْ ذَلِكَ المالِ، قالَتْ: مَنْ بعثَ هذا المالَ؟
قِيل لها: عبدُ الرّحمنِ بنُ عوفٍ.
فقالَتْ: قالَ رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «لا يَحْنُو عَلَيْكُنَّ مِنْ بَعْدِي إلاَّ الصَّابرونَ».
وقَدْ اسْتُجيبَتْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبوركَ لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ في مالِهِ. فَقَدْ أَخَذَتْ تجارتُه تَنْمُو وتَزْدادُ، وكانَتْ قوافِلُه تَتَرَدَّد ذاهِبَةً وآتِيَةً منَ المَدينَةِ تَحْمِلُ لأَهْلِها القَمْحَ والدَّقيقَ والدُّهْنَ والثّيابَ والطِّيبَ، وكلَّ ما يحتاجونَ إليهِ.
وفي يومٍ قَدَمَتْ قوافلَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ علَى المدينَةِ، وكانَتْ مُؤَلَّفَةً من سَبْعِمِئَةِ راحِلَةٍ، تحملُ علَى ظهورِها القمحَ والمَتاعَ وكلَّ ما يحتاجُ إليهِ النَّاسُ، فما إِنْ دَخَلَتْ المدينَةَ حتَّى رُجَّتْ الأَرضُ بِها رَجًّا، وسُمِعَ لها دَوِيٌّ وضَجَّةٌ، فقالَتْ عائِشَةُ رضوانُ اللهِ عَلَيْها: ما هذه الرَّجَّةُ؟
فقيل لها: قوافلُ لعبدِ الرَّحمنِ بن عوفٍ تحمِلُ القَمْحَ والدقيقَ والطعامَ. فقالَتْ: باركَ اللهُ له فيما أَعْطاه في الدُّنْيا، ولثَوَابُ الآخِرَةِ أَعْظَمُ.
بَقِيَتْ دَعْوَةُ الرَّسولِ، عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ بِأَنْ يُبارِكَ اللهُ له تُظَلِّلُهُ ما امْتَدَّتْ بِهِ الحَياةُ، حتَّى غَدا أَغْنَى الصَّحابَةِ وأَكْثَرَهُم ثَرَاءً.
لكنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ جَعَلَ ذَلِكَ المالَ كُلَّه في مَرْضاةِ رَسولِهِ، فكانَ يُنْفِقُهُ يمينًا وشِمالاً، وسِرًّا وإعلانًا، حَيْثُ تَصَدَّق بأرْبَعينَ أَلْفِ دينارٍ مِنِ الفِضَّةِ، ثُمَّ بأرْبَعينَ أَلْفِ دينارٍ ذهبًا، وتَصَدَّق بِمِئَتَيْ أوقِيَّةِ مِنَ الذَّهَبِ.
وقَبْلَ أَنْ يَتَوَفَّاه اللهُ أَعْتَق خَلْقًا كثيرًا مِنْ مَمَالِيكِهِ، وأَوْصَى لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ بأَرْبَعِمِئَةِ دينارٍ ذَهَبًا، وأَوْصَى لِكُلِّ من أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ بمالٍ جَزيلٍ، حتَّى أَنَّ أُمَّ المؤمنينَ عائشةَ، رضوانُ اللهِ عَليْها، كانَتْ تدعو له فتقولُ: «سَقَاه اللهُ مِنْ ماءِ السَّلْسَبِيلِ».
فطوبَى لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ.. فَقَدْ بَشَّرَه رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، بالجَنَّةِ، وحَمَلَ جَنازَتَه إلَى مثواهُ الأَخيرِ خالُ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاص، وصلَّى عَلَيْه ذو النّورَيْن عُثْمانُ بنُ عَفَّانَ، وشَيَّعَهُ أميرُ المؤمنينَ، كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، عليّ بنُ أبي طالِبٍ، وهو يقولُ: «اذْهَبْ فَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَها، وسَبَقْتَ زَيْفَها، يَرْحَمُكَ اللهُ».
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]