نبذة عن حياة الشاعر “الفرزدق”
2002 موسوعة الكويت العلمية الجزء الثالث عشر
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
الشاعر الفرزدق شخصيّات المخطوطات والكتب النادرة
هذا الشاعر المشهو اسمه: همام بن غالب بن صعصعة، وكنيته أبو فراس. لقب بالفرزدق لغلظ وجهه، إذ الفرزدق هو القطعة من العجين قبل أن تشكل!
ولد الفرزدق سنة 19هـ، في خلافة عمر، رضي الله عنه، في البصرة. وكانت نشأته في باديتها فشب خالص البداوة قويا، حاد الطباع.
وكان شديد التعلق بقومه وبمآثرهم، وهذا ملأ نفسه زهوا وكبرا، وفسح له في مجال الشعر أن يفخر بآبائه وأجداده، ويباهي الناس بهم. وكان الفرزدق فصيح اللهجة، ملما بدقائق اللغة حافظا غريبها، عالما بأخبار العرب وأيامها، وأيام تميم.
أحب الشعر منذ طفولته فنظمه وأعجب به أبوه، وكان من شيعة أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، فأتاه بعد فراغه من وقعة الجمل ومعه ابنه الفرزدق، فسأله عنه فقال: «هذا يوشك أن يكون شاعرا مجيدا».
فقال له علي: «أقرئه القرآن فهو خير له». فما زالت كلمة أمير المؤمنين تعمل في نفس الفرزدق دهرا حتى عمل بها بعد أن جاوز الثلاثين.
كان أبوه، غالب بن صعصعة، من أجود الناس وأكرمهم، وكذلك كان جده صعصعة من أكرم الناس وأشرفهم، وكان يلقب محيي المؤودات، لأنه كان إذا علم برجل يهم بوأد ابنته للفقر اشتراها منه بناقتين وجمل. ويقال إنه اشترى ستين موؤودة لم يشاركه في هذه المكرمة أحد، حتى أنزل الله تحريم الوأد في القرآن.
وكان الفرزدق بارا بأبيه متفانيا في محبته موقرا له في حياته وبعد مماته. وكان في استطاعته أن يعيش في مال أبيه، إلا أن ميله للشعر منذ طفولته ولد فيه حب الانتصار والمباهاة والغلبة، وهي من صفات البدوي.
ولم تكن المغالبة في الشعر إلا بالهجاء والسباب في القول. فخرج الفرزدق شريرا سليط اللسان يبادئ من لم يبادئه به.
وكان ذلك سببا في تأديب الولاة له بالحبس والنفي والتشريد مرارا فلم ينتفع بتأديبهم، فخافه الأشراف والعلماء فداروه بالمال.
ولكنه كان إلى جانب ذلك جبانا بحسب الروايات، فعلى الرغم من إعجابه بنفسه ومباهاته بأصله، وقف قتاله في الحياة بلسانه فقط.
وكان عنده أقوى من السيف وأحد من الخنجر. وكان خصومه يتخذون من جبنه ذريعة وسببا للتندر عليه. فمن ذلك قول جرير فيه:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع!
وكان الفرزدق يتشيع لعلي بن أبي طالب وأبنائه، ويجاهر بحبه وولائه لهم. فإذا مدحهم تدفق شعره عاطفة وحماسة، فلا ترى فيه أثرا للتكلف. إلا أن تشيعه لعلي لم يمنعه من التقرب إلى الأمويين ومدحهم رغبة في رضاهم أو رهبة منهم.
وكان بينه وبين جرير هجاء لا ينتهي، فما أن يقول قصيدة حتى ينقضها عليه جرير، ولا يقول جرير قصيدة حتى ينقضها الفرزدق.
وبقي الفرزدق وجرير يتكسبان بالشعر بمدح عبد الملك وإخوته والحجاج. إلا أن الفرزدق، لسوء سيرته وجهامة طبعه، كان الولاة يحبسونه ويضطهدونه.
وكثرة مهاجمته للشاعر جرير جعلت الناس في صدر الإسلام ينقسمون فريقين: أحدهما يناصر ويعمل لصالح الفرزدق، والفريق الثاني يناصر ويعمل لصالح جرير ويتعصب له.
وكان الفرزدق شاعرا مجيدا، وعده ابن سلام، صاحب كتاب «طبقات فحول الشعراء»، في الطبقة الأولى من الشعراء الإسلاميين.
وتناول الفرزدق في شعره الغزل، والرثاء، والزهد، إلا أن أهم الأغراض التي يرمي إليها شعره هي: الهجاء، والفخر، والمدح.
ضم ديوان الفرزدق كما هائلا من القصائد التي تتناول الهجاء، وهي فطرة فيه، حيث كان يقول وفي نفسه غضب وغيظ لخصومه.
ولعل الخلاف أو الحرب التي بينه وبين جرير والتي استمرت أربعين سنة أنتجت هذا الكم الكبير من شعره في هذا الغرض.
ومن هجائه قوله في قصيدة:
يا قيس عيلان إني كنت قلت لكم
يا قيس عيلان أن لا تسرعوا الضجرا
إني متى أهج قوما لا أدع لهم
سمعا إذا استمعوا صوتي ولا بصرا
وله أيضا هجاء لجرير، منه قوله:
جر المخزيات على كليب
جرير ثم ما منع الذمارا
[المخزيات: ما يجلب العار؛ وكليب: قبيلة جرير؛ والذمار: الحمى الذي يدافع عنه].
وكما كان الهجاء طبيعة عند الفرزدق منذ طفولته كذلك كان الفخر. فقد طبع الفرزدق على حب الفخر، وهي طبيعة في العرب منذ الجاهلية، إلا أن الإسلام خفف منها عند أهل المدينة، وبقيت في البادية تشعل نيرانها أحيانا وتخمد أخرى حتى خفت بعد أن انطفأ سلطان العرب وغلبتهم الأعاجم على ملكهم.
وعلى الرغم من أن الفرزدق امتاز بكثرة فخره، لم يقل قصيدة كاملة فيه، وإنما كان يفخر في معرض هجائه لجرير وغيره.
وأكثر ما كان يفتخر به الفرزدق كرم أبيه، وخاصة للضيف، وانتصار أجداده، وأنهم قادة الحجيج وحكام العرب وخطباؤهم وفصحاؤهم.
ومن فخره بقومه قوله:
لنا عدد يربي على عدد الحصى
ويضعف أضعافا كثيرا عذيرها
وما حملت أضغاننا من قبيلة
فتحمل ما يلقى عليها ظهورها
[والعذير: النصير]
ومن فخره أيضا:
أنا ابن ضبة فرع غير مؤتشب
يعلو شهابي لدى مستخمد اللهب
سعد بن ضبة تنميني لرابية
تعلو الروابي في عز وفي حسب
[ضبة: قبيلة أم الفرزدق؛ مؤتشب: مخلوط].
أما المدح فهو حرفة التكسب بالشعر عرفها العرب منذ الجاهلية، ولما جاء الإسلام أجازها إذا كانت دفاعا عن حق وردا ودفعا لباطل، إلا أنه نهى عن مدح الإنسان نفسه.
وكثر المديح في عهد معاوية لحاجته إلى الإشادة بخلافته، وكثر عند أمراء القبائل والقادة والولاة من العرب، حيث كان كل شاعر يقصد أمير قبيلته وعظيمها ويمدحه.
وكان الفرزدق يتشيع لعلي بن أبي طالب وأبنائه، ويجاهر بحبه لهم، وإذا مدحهم تدفق شعره عاطفة وحماسة. وخير دليل على صدق موالاته آل البيت قصيدته في علي بن الحسين زين العابدين، فهي من أبلغ الشعر.
أنشدها حين حج زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان من أجمل الناس وجها، فطاف بالبيت، ولما انتهى إلى الحجر الأسود انشقت له الصفوف ليتسلم الحجر الأسود، فقال رجل من أهل الشام: «من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة». وكان الفرزدق حاضرا، فقال فيه قصيدته:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا
[البطحاء: أرض بمكة فيها أفضل قريش؛ البيت: الكعبة المشرفة؛ الحرم: ما حول مكة؛ الحل: ما جاوز الحرم: العلم: السيد الشهير؛ وجد علي بن الحسين، هو: رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين].
وللفرزدق قصائد كثيرة في المدح، وقد مدح بني أمية ولكنه في مدحه لبني أمية لم يكن صادقا كل الصدق، ولكن الظروف أجبرته على ذلك، إما رغبة في المال أو خوفا من بطشهم وقوتهم.
فهو يساير الظروف، وهذه صفة السياسي الذي يعرف كيف يستغل المواقف والرجال، وكلمته تؤثر في كل مجال.
خلف لنا الفرزدق ديوانه، وهو مطبوع، وقد كثر فيه المدح والفخر والهجاء، كما يحتوي على الغزل القليل. وأهم ما يميز شعره النقائض التي حصلت بينه وبين جرير، وقد طبعت بعنوان: «نقائض جرير والفرزدق».
وامتاز الفرزدق بخاصية، وهي أنه في شعره يكثر من القصائد القصيرة. وله أيضا قصائد طويلة، إلا أنه يفضل القصيرة لأن تذكرها أيسر.
وفي آخر أيامه أصابه دمل كبير في جوفه، فأتوا له بطبيب فسقاه القار الأبيض، فقال: «أتعجلون لي النار في الدنيا». ومات وقد بلغ أو قارب المئة. وقيل له في مرضه الذي مات فيه: «اذكر الله» فسكت طويلا ثم قال:
إلى من تفزعون إذا حثوتم
بأيديكم علي من التراب
ومن هذا يقوم لكم مقامي
إذا ما الريق غص بذي الشراب
[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]