العلوم الإنسانية والإجتماعية

مفهوم “الاتزانية” لدى بياجيه وأنواعها

1995 مستويات النمو العقلي

الدكتور محمد مصيلحي الأنصاري

KFAS

بياجيه مفهوم الاتزانية العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة

المفهوم الخامس من المفاهيم الأساسية عند بياجيه وهو مفهوم الاتزانية ، يواجهنا أيضاً مثل مفهوم المخططات العقلية بمشكلة المصطلح العربي ، ذلك أن المفهوم متداول تحت مسميات مختلفة حتى الآن ، منها التوازن ، التعادلية ، الاتزان ، لكننا فضلنا عليها جميعاً " الاتزانية"، وذلك لأن التوازن يشير إلى المفهوم البيولوجي أكثر منه المفهوم النفسي . 

وأما التعادلية فيرجع فضل استخدامه إلى توفيق الحكيم كمفهوم أدبي أكثر منه نفسي ، أما تفضيل الاتزانية على الاتزان فيرجع إلى أن المصطلح يعبر عن عملية وليس عن موقف أو مصدر .

ولفهم الاتزانية باعتبارها ليست فقط أحدث ما طرح بياجيه من مفاهيم النمو العقلي المعرفي ، بل وأيضاً باعتبارها أهم العوامل المؤثرة في هذا النمو ، وما دمنا قد انتهينا من بيان اهمية عمليتي الاستيعاب والمواءمة في إحداث التطور والنمو في المجال العقلي المعرفي.

فهل يمكن أن نتخيل ماذا يحدث لو أن شخصاً يستوعب دائماً ما يتعرض له من مثيرات أو أحداث ، لكن هذا الشخص لا يقوم أبدا بعملية المواءمة – وهذا مجرد افتراض – إن مثل هذا الشخص يمكن أن ينتهي إلى عدد قليل جداً من المخططات الكبيرة ، لكنه سوف يكون غير قادر على التمييز بين الأشياء أو الأحداث ومن المتوقع أن يراها متماثلة في معظمها.

 

وفي المقابل ما الذي يمكن أن يحدث لو أن شخصاً يوائم دائماً طبقاً لما يتعرض له من مثيرات وأحداث لكنه لا يقوم بعملية الاستيعاب – وهذا أيضاً مجرد افتراض – إن مثل هذا الشخص يمكن ان ينتهي إلى عدد كبير جداً من المخططات الصغيرة التي تؤدي إلى قليل من التعميم ، ومن المتوقع أنه سوف يرى معظم الأشياء والأحداث مختلفة.

أي من هذين الطرفين – المبالغ فيهما – لا يمكن أن يسفر إلا عن نمو عقلي غير طبيعي ولذا فإن توازنا بين الاستيعاب والمواءمة يعتبر امراص ضرورياً مثل ضرورة العمليتين نفسيهما .  وعلى هذا الاساس يسمى بياجيه حالة التوازن بين الاستيعاب والمواءمة بالاتزانية باعتبارها اليمكانيزم ذاتي التنظيم الروري لتأكيد التفاعل بين الطفل النامي والبيئة . 

وعلى هذا الاساس أيضاً فإن عدم التوازن يمكن التفكير فيه أيضاً على انه صراع عقلي ينتج عند مالا يستطيع الطفل تأكيد توقعاته من خلال خبراته ، كما يمكن الكشف عن جوهر وجهة نظر بياجيه في الدافعية حيث يساوي بيايه بين حالة الدافعية وحالة عدم التوازن الذي ينشط البحث عن مزيد من التوازن ، اي ينشط البحث عن كل من الاستيعاب والمواءمة ويخلق الميكانيزم الداخلي الذي ينظم عمليات الاستيعاب والمواءمة ويخلق حالة من الدافعية ذاتها.

ويعرف (Wadsworth, 1989, p. 12) الاتزانية في ضوء ما سبق بأنها " الميكانزم الداخلي الذي ينظم عمليات الاستيعاب والمواءمة بنفس الطريقة ، التي نتكيف بها بيولوجياً للعالم المحيط بنا ، حيث أن النمو العقلي هو ايضاً عملية تكيف".

 

وبالرجوع إلى بياجيه وماذا يقصد بالضبط بمفهوم الاتزانية ، نجد أن بياجيه فقد عرض في مستهل كتاباته المبكرة عن العوامل المؤثرة في النمو باعتبارها ثلاثة عوامل ، عوامل وراثية ، عوامل الخبرة الطبيعية ، عوامل التفاعل الاجتماعي  (Piaget, 1961, p. 2760 ثم عاد وأضاف إليها العامل الرابع وهو الاتزانية.

وفسر ذلك بسببين، أولهما ، حاجة نفس العوامل الثلاثة سالفة الذكر إلي التنسيق فيما بينها ، هذا التنسيق هو نوع من الاتزانية ، والثاني يتمثل في انه عند بناء أي تركب عقلي سواء كان من مرحلة ما قبل العمليات أو في مرحلة العمليات أو في مرحلة العمليات المحسوسة فإن الفرد قد يدخل في كثير من المحاولة والخطأ وكثير من التنظيم الذي يتضمن في جانب منه التنظيم الذاتي.

وهذا التنظيم الذاتي هو جوهر الاتزانية وطبيعتها (Piaqet, 1977, p. 4) وتلعب التنظيمات الذاتية دورها في جميع مستويات المعرفة بما في أبسط مستوياتها الإدراكية .

 

وقد كشف بياجيه من خلال عرضه لعدد من الأمثلة والنماذج لحالات من الاتزانية وعدمها عن وجود ثلاثة أنواع من الاتزانية ، تتواجد في كل البنى المعرفية سواء كانت عملياتيه او غير عملياتية وهي :

أ- الاتزانية من خلال العلاقة بين الاستيعاب والمواءمة ، حيث يكون هناك إتزان بين ما لدى الفرد من بنى معرفية والموضوع الذي يواجهه ، وحيث تتواءم أبنيته للموضوع الجديد المقدم إليه ، ويتم الاستيعاب في البنى القائمة ، ويعتبر بياجيه أن هذه الصيغة هي أولى حالات الاتزانية وقد سبق له ان صور أمثلة عديدة منها خصوصا في طرحه لفكرة الاحتفاظ .

 

ب- الاتزانية من خلال العلاقة بين الانظمة الفرعية لمخططات الفرد ، في الحقيقة مخططات الاستيعاب متناسقة في أنظمة جزئية ، يشار إليها على أنها أنظمة فرعية في علاقتها بالكليات في معرفة الفرد ، هذه الأنظمة الفرعية يمكن أن تقدم صراعات هي نفسها. 

وفي مصطلحات عامة يمكن القول ، إنه قد يوجد صراع بين نظام فرعي يتعامل مع عملية منطقية – رياضية (مثل التصنيف ، التسلسل ، العدد) ونظام فرعي آخر يتعامل مع عملية مكانية (مثل الطول والمساحة).

بحيث أن الطفل عندما يصدر حكمه على طول مجموعة من العصى مختلفة الأطول ومختلف الاعداد في كل من العصى الطويلة والقصيرة ، يكون هذا الطفل في مواجهة نظامين مختلفين يمكن أن يتطورا بسرعات مختلفة ، وبالطبع اثناء تطورهما تكون هناك حاجة للتناسق بينهما وهذه هي الاتزانية بين الأنظمة الفرعية

 

ج- النوع الثالث من الإتزانية ينظر إليه بياجيه على أنه النوع الاساسي ، ويقول عنه ، إنه شيئاً فشيئاً ينبغي أن يكون هناك إتزان ينشأ بين أجزاء المعرفة لدى الفرد وما لديه من كليات معرفية في أي لحظة من اللحظات .

وأن يكون هناك تمايز مستمر للكليات المعرفية إلى أجزاء وتكامل للأجزاء مرة اخرى في الكل ، هذا الإتزان والتكامل يلعب دوراً أساسياً في التكيف البيولوجي ، وكذلك في التكيف على المستوى العقلي ، حيث يقود هذا التكيف او هذه الإتزانية إلى بناء أفعال جديدة أو عمليات جديدة في ضوء الأفعال والعمليات السابقة.

ويشير بياجيه إلى أن بناء هذه العمليات الجديدة من المحتمل أن يكون سر النمو وسر الإنتقال من مرحلة إلى أخرى .

 

ويضيف بياجيه أن الحديث عن الإتزانية لا يعني مطلقاً حالة معينة من الإتزانية ، ذلك أننا مهما اكتسبنا من خلال الوظائف العقلية من إتزانية فلا بد وأن يكون هناك دائماً ميل للبحث عما بعدها من إتزانية أفضل.

وينبغي أن ينظر إلى قانون الأفضل أو الأمثل Optimalization ولو أن هذا المصطلح ليس له معان محددة في علم النفس ، إلا أن يمكن القول ببساطة أن الفرد يعيش في حالة بحث مستمر ولا يتوقف عند إتزانية أفضل ، وبكلمات بياجيه " الإتزانية هي البحث عن إتزانية أحسن فاحسن" (Piaget, 1977, p. 13)

 

كما أضاف بياجيه أنه عند الحديث عن الإتزانية المعرفية فينبغي أن نميز بينها وبين التوازن كما ينظر إليه في الطبيعة ، ويضرب لذلك مثالاً بالتوازن في كفتي الميزان أو التوازن بين الضغط والغاز في برميل مشيراً إلى أن التوازن هنا يتم عن طريق وسائط سلبية تسمح بالفعل بين جهة وأخرى مثل قب الميزان  أما في الإتزانية المعرفية فإننا أمام نظام تتفاعل فيه كل الأجزاء ويعتمد كل جزء فيه على الآخر . 

الإتزانية هنا لا تتم عن طريق روابط سلبية بل إن هذه الرابطة بين الأجزاء هي المصدر الحقيقي للفعل ، كل جزء يقدم قوة تماسكية محددة هي المصدر الذي يمكن من استيعاب عناصر جديدة وهكذا ، وهذا التفاعل والتماسك تشترك فيه الأنظمة العقلية والأنظمة البيولوجية في الإنسان .

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى